صوت حفيف أوراقٍ متساقطة تطرب الأذن بسماعها في هذا الوقت، وقت تبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. كلّما مشى خطوة تهرس قدميه، ورقّة تلفح حفيفها الطَرِب أذنيه، فتزداد بسمته النَعِسة المضيئة على وجهه السّمح النّقي . يوّجّه بصره نحو نقطة بعينها، فيسمع صوته الهادئ يعاتبه على تأخيرٍ لم يكن بالحسبان: الصلاةُ يا طه، فيدلف مبتسمًا يردُّ السّلام لأصحاب الفجر وأهله ثم يؤمّ بهم..
لطف روحه، وخفّة ظلّه، وحبّ النّاس له، تكفي لقول: اللّهمّ اجعل بنيّ مثلَه. لم يكن خلّه يعلم أنّ ابتسامة طه حين عاتبه، سيفتقدها، وسيوّبّخ نفسه لنبرة المعاتبة الّتي لاقاه بها. لم يكن صحبه على درايةٍ بمدى ولعهم وحزنهم وشوقهم، الّذي سيزداد مع الأيّام الموحشة، والصّباحات الغائبة من صوته آسر الأنفاس وحابسها، شجيّ المعالم، خاشع النّبرة .
يتهادى ممتشقًا زهرة الزّنبق البيضاء بين يديه الخشنتين، يتحسّس عطرها الأخّاذ بكلّ رقّة، رافعاً وجنتيه لأعلى، لتظهر (غمّازةٌ) محفورةٌ بين شعيرات ذقنه العريض، تنمّ عن ابتسامة حالمة مردُّها: (يرضى عليك يمّا)، وقُبلة تحلّ بموطنها على ضفاف لحيته. دون سابقة تهديد، فجأة كلّ شيء حدث كلمح البصر، صوت دويّ التهم أذن صديقه المغمض العينين، الّذي يبعد عنه مسار إحدى عشر خطوة، حينها كان يسلّم على جاره، إذ وصل داره. لحظة استولى الصّمت على أسقاع المكان، فتح عينيه ببطء وتأنّي؛ ما لبث أن جحظتا، وفؤاده سقط أسفل قدميه، هرول الإحدى عشر خطوة خلال ثانية، كان جاثياً على ركبتيه، متلهّفاً لسماع خفقة واحدة، يصدرها قلبه الطّاهر، أخذ يتحسّس نبضه، تارةً يضع يده عند حدود رقبته؛ يلتمّس عروقها، وتارةً أخرى يحمل إصبعيه الوسطى والسّبابة؛ ليضغط على شرايين مقدمة يديه، وأخرى يسقط أذنيه داخل العضلة اليساريّة؛ ليخترق أيُ همسٍ يُسمع. انتشلته الفرحة من ثبات لهفته المجنونة، بدأ يهزّه: انهض أنا هنا معك، ولم يتبقَّ لوصولك إلى بيتك سوى عشر أمتار، تمتم بشفتيه بضع كلمات؛ اقترب معاذ منه أكثر، ووضع جلّ سمعه أمام شفتيه ليستمع لهمهمته فقط، اخترقت طبلة أذنه كلمة (لا).. لا لدمعة عيون أم، لا لكسرة قلب أخت، لا لاقتلاع روح زوجة، لا ليتم ولد، لا لاعوجاجٍ عن طريق الحق، لا لحزن على روحٍ اشتاقت لبارئها؛ فهبّت منتصرة بجهادها وهيامها بأرضها، نعم لزغرودة أم، لسعادة أخت، لصمود وصبر زوجة، الولد لا يُيَتَّم إن استشهد أبوه، بل يُيَتَّم إن كان أبوه يعيش بخزيٍ وضلال عن طريق الحق، ونعمَّ الولد المكمل لمسار نضال والده، نعم للجهاد، نعم لصاروخٍ يدوي، يهزّ كيانهم المسيطر، أصحاب الأسلحة الحديثة المتقدّمة الفتّاكة ..
فَهِمَ من علامات جسده أنّه يريد النّهوض، أسنده بالقرب من حائط بيت جيرانهم وجلس بجانبه، أسقط طه رأسه رويدًا رويدًا على كتف رفيقه، وظلّت بسمته عالقة، وأسنانه البيضاء اللّامعة تنافس القمر بضيائها، وعيناه الشّاخصتان، وجسده القويّ الّذي طفق يتألّم بشدّة، وضع يده الممسكة بالزّهرة الراكنة على تراب الشّارع، ناحية خافقه، ورفعها بكلّ بطء أمام حدقتيه الذّاهلتين، فيبصر بعض ذرّات التّراب تتخلّلها وهي مخضّبة بلون العشق، بلون الجهاد، لتزداد بسمته الوضاءة الطّاهرة، ويرفع سبابته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ،، فلـتعطها لأمي يا معاذ، أوصيك أن تستكمل مسيرتنا وعهدنا، فنحن أهل الحق، الحقني بعدما تنال منهم .. هبّت روحه مشتاقة للحنّان الكريم، راضية مستبشرة برصاصةِ غاصبٍ انتهك حرمة كفاحه وحبّه لأرضه . وخلّه منكبّ يحدّق به فرِحًا، بلحظةٍ تعاهدوا على السّير معًا، ليواجهوها باطمئنان محبّ، حَزِنًا على قدرٍ نفذ هو منه .
بقي محدقًا بابتسامته، وعينيه السّوداوتين، اللّتين أغلقتا للتّو، بيده وبسبحته الملقاة بجانبه، متفتّت الحبّات، كما قلبه المتفتّت لرؤية رفيق دربه يهجره، دون وداع يليق بصداقتهما، دون الأخذ بيده معه، لعالمٍ اشتاقا له، ليجاورا رفاقهم السّابقين، فتشتعل ذكرياتهم أمام ناظريه، كأنّها الآن، ولهيبها يزداد كلّما حدّق أكثر، يمسّ سُرَادِقها عقله المتيقّظ، فينحني إجلالًا لكل خطوة ساروا بها في طريقهم للنّصر، فتطرقَ عقله دفعة واحدة، يتذكّر أوّل حلقة دينيّة جمعتهم في مسجد الهداية ..
0 تعليقات