الكلُ يصوب ناظريه نحوي أشعر بنظراتهم كما لو أنها سيلٌ من الرصاص الحيّ يُطلق نحوي.
""حال المريض يتدهور جهاز تخطيط القلب لا يبشر بالخير""
كلماته هذه تخرق طبلة أذني، أشعر بصوته كنعيق الغراب ينهش رأسي وفجأةً ذلك الجهاز اللعين بدأ بالصياح والصفير يخبرنا أن الأمور خرجت عن السيطرة، وأن الخطر بات محدقاً بنا من كل الجوانب رفعت رأسي، وصرخت لنبدأ عمليات الإنعاش حاولنا إنقاذه حاولنا بكل ما أوتينا من حول وقوة لكنه أبى ذلك، وعرجت روحه إلى السماء وانتهى عندها كل شيء.
كيف حدث هذا؟ ما الذي حصل؟ ما الذي فعلته؟
""ما كان عليّ القيام بتلك العملية، وبي من الوهن والتعب ما لا يمكن حمله"" همستُ لنفسي.
لست أقوى على رفع رأسي فالجميع يحملق بي يترقبون أجوبةً عما سبق ذكره من أسئلة ولكنني لا أملك.
تمّ استدعائي لمكتب المدير لكن لا طاقة لي حتى للحبوب والزحف نحوه أشعر بخدرٍ في جسدي كما أن خلايا رأسي لا تكف عن تكرار صفير تلك الآلة اللعينة.
وصلت عتبة باب المكتب وما إن أمسكت مقبضة الباب حتى نسج لي رأسي مشهد فقدان المريض ثانيةً، وبدلاً من فتح الباب بدأت الجريّ كالمسعور وخرجت من المشفى، وقذفت بنفسي أمام أول سيارة أجرة أبصرتها عيني، بهُت السائق لفعلتي هذه ولم ينبس ببنت شفة كما لو أن أحباله الصوتية بُترت لفظاعة ما رآني به فهيئتي باتت كالممسوس، أو ربما سفاح سفاك قد يتلذذ بدمه إن أبدى الأخير ردة فعل.
وصلت منزلي خطوت عتبة الباب وأغلقته وهويّت على الأرض، وشرعت أصيح وأصرخ.
لقد عفوت عن أعضاء جسدي وخلاياه أخيراً، وأطلقت سراحها وسمحت لها بالنشيج والعويل.
كنت أنتحب كما الثكالى أضرب وألطم كيف حدث هذا، لقد اغتصبت حقه في الحياة ونشلته إياه كيف حنثت بوعدي في أن أمنح الكثير من الصحة لمن يحاول شبح المرض إيقاعه في شباكه، ليس ذلك فقط حنثت به وسلبت حق مريضي في الحياة أيضاً.
هذه الليلة سيقام عزاء في منزله، وبالتالي الكثير من شلالات الدموع حزناً وحسرة على فقيدهم.
من الآن وصاعداً سيبقى كرسيه فارغاً على طاولة الطعام سينتظره أولاده كل ليلة متشوقين لعودته، وبيده كيس من الحلوى سيطول انتظارهم حتى ساعة متأخرة من الليل ولن يجيء.
ستغفو زوجته وحيدة في الفراش تذوب روحها على من لم يفارقها طوعاً، ولكن دهاه من المنية ما دهاه.
تغمر رأسها بغطاء سميك محاولة كبحه عن العمل لكنها تفشل تود لو أمكنها إخراجه، وبيعه في سوق النخاسين أو رميه في سلة المهملات فقط لتنعم ببعض السكون لكن لن يكون لها ذلك.
أما والديه يا رباه كيف سيؤول حال هذين العجوزين عند تلقي الخبر كيف ستصمد أرواحهم المرتجة أمام عواصف الشوق لفلذة كبدهما الذي عجلت له يد المنايا وما استوفى حقه من صباه.
""يا رباه كيف سأستطيع استيعاب كل هذا""
همس لنفسه، وبقيّ هكذا مستلقياً على الأرض يشهق ويبكي حتى غلبه السهاد، وأغمض جفنيه ونام.
في القسم الآخر من المدينة تقيم حواء إحدى جميلات الحي العازبات، وأكثرهن حكمة ووفارا تدرك من العلوم الفلسفة، والنطق، والكلام والدين ما يجعل حضورها في المجالس أخاذاً.
بهية الطلة بيضاء كالثلج بشعر بني الخصلة ينسدل فيغطي ظهرها ما يزيدها فتنة وسحراً
على غير العادة أفاقت حواء فزعة مرتاعة تدرك من ملامح الهلع التي احتلت وجهها أنها كانت تصارع كوابيساً طيلة الليل.
نهضت من رجادها، وفي نفسها رغبة جامحة في البكاء لا تعرف سببها، لكنها كانت تحس بشيطان رجس يجثو فوق صدرها.
قامت من مكانها واتجهت نحو الحمام توضأت، وهيأت نفسها للصلاة وشرعت فيها تتلو آيات القرآن وعيناها تغرقُ بالدمع.
ما إن فرغت حتى هرعت مسرعة تغير ثيابها، وتحضر قهوتها الساخنة يبدو أنها ستحتسيها في الطريق لأنها ستقع في مأزق إن تأخرت أكثر، فمديرها الجشع لن يتفهم موجة الذعر التي هاجمتها صباحاً.
دخلت مكتبها وأغلقت الباب وحطت على كرسيها تشعر بوهن عام في جسدها، كما أن هناك نخرات تقتنص أيسر صدرها بين الفينة والأخرى، أسدلت جفنيها بغية الهدوء والسكينة حتى لاح في بالها صورة آدم الطبيب أحد طلاب كلية الطب المتفوقين المفكر المبدع الذي يشق طريقه نحو القمة، وإن كان في الدرك الأسفل.
الوسيم صاحب الطلة البهية والرزينة خاطب الأنفاس لفرط ما يفرضه حضوره من وقار واحترام.
الشاب الذي ذابت روحها فيه خفيةً الذي عشقته حد الثمالة، لكنها اختارت التستر دوناً عن الجهر والإعلان بما تكنه له رغم أنه لطالما كان ثغرها محشواً بقصائد حب وغزل، نسجتها له في ليال الشوق والحنين دونتها بماء عينها وحفظتها في قلبها بعيداً عن أعين العالمين بعيداً حتى عن عينه.
من الذي أيقظ هذه المشاعر الغبية الآن، أو كلما بترت بضعة منه عاد يتكاثر من جديد، رباه إنه يفتك بروحي وما عدت أطيق عشقاً هكذا دون وصال.
حاولت حواء شغل نفسها بالعمل، وللأسف بدت كالبلهاء تروح وتجيء دونما أن تفعل شيئاً مثمراً، هكذا استمر حالها حتى باغتتها تلك الوزات ثانية رافقتها انقباضه موجعة، وخدر عان في أوصالها فخارت قواها ولم تعد تقوى على حمل نفسها فسارعت إحدى زميلاتها بالتقاطها، ومن ثم أخذت إجازة لها وأعادتها إلى المنزل.
وعلى الرغم من الألم الذي حل بها رفضت بقاء زميلتها معها، فهي تشعر أنها تحتاج لخلوة مع ذاتها.
مستلقية على السرير صامتة ترمق السقف، وبحابها ساعة المنبه تصدر صوت تكتكة كما المعتاد لكن هذه المرة بات هذا الصوت مزعجاً لها، إنها تنزعج حتى من صوت نفسها تشعر بنفسها تتحول لأذن ضخمة تلتقط الأصوات هناك وهناك حتى صوت دبيب النمل في بيت جارتها.
حاولت سد أذنيها ولكنها لم تشعر بالراحة فنهضت على عجل، وبطريقة وحشية أزالت بطاريات الساعة أدارت عينها لمحت خزانتها، خزانة الفنتازيا خاصتها كما تدعوها هي فهنا تحفظ تاريخها كله.
أخذت تخرج أكواماً من الصور، والرسائل حاكمتها بالموت هجراً أمسكت صورة يقف فيها آدم مبتسماً يوم تخرجه، بريق عينيه مازال يأسرني أشعر به كما لو أنه يطلق شعاعاً نحوي فيرديني قتيلة
نوبة الحنين اليوم ليست اعتيادية، كم سيلزمني من الكافيين لصد هذا الاجتياح هكذا حادثت شخصه المتمثل في الصورة.
عاود قلبها الانقباض وبشدة هذه المرة، إنها تتحسس ذلك كما لو أن أحدهم يحكم بقبضته على تلك العضلة الصغيرة فيعتصرها بقوة سبعين رجل، إنها تشعر أن ما ينتابها إنما هو إشارات لنائبة ما، لا يمكن أن يكون هذا شيئاً من الطبيعة.
هرعت نحو حاسوبها وبدأت باقتفاء إثره على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم هجرانها لها منذ مدة فهذه المنصات كانت تذبحها كل ليلة حتى اعتادت مراقبته، وتعقبه فآل به الحال تتمدد ساعات وساعات في حساباته لهذا ما كان منها إلا أن تداوي نفسها بالصيام عن كل ما يمت له بصلة، لكنها اليوم ليست سوية كما لو أن جنياً خلفها يحثها على التواصل معه وعلى هذا راحت ترسل له: مساء الخير كيف حالك؟
استيقظ آدم فرك عينيه ووجد نفسه كالجثة الهامدة أمام الباب نهض متثاقلاً يحاول سند جسده على الجدران والتشبث بكل ما يظهر أمامه، يترنح كالسكير هنا وهناك حتى وصل درجاً يحفظ فيه الأدوية أخرج الكثير من المسكنات وابتلعتها دفعة واحدة ثم ألقى بنفسه في الفراش.
فجأة تناهى لمسمعه صوت حاسوبه الشخصي يطلق إشعارات تخبره أن هناك من يود محادثته، لكنه لم يلقي للأمر أي أهمية وظل غارقاً في لجة الأسى.
حواء في الطرف الآخر وراء الشاشة تنتظر إجابة منه انتظرت وانتظرت، حتى نفد صبرها وراحت تتصل به، وأيضاً هذه المرة لم يحرك ساكناً، لكن صوت الرنين لم يتوقف بل استمر، ما
أثار جام غضبه واندفع نحو الحاسوب، يرفض تلك المكالمة لم يفتأ يدير رأسه حتى عاودت الاتصال، وظهر اسمها ووجها على الشاشة حواء ليست بالغريبة عنه إنها وجهها مألوف حاول جاهداً استحضار ذاكرته لكنه فشل تماماً، عاود رفض الاتصال وقرأ رسائلها ومن ثم تجاهلها وهم للعودة إلى سريره حتى وجدها تتصل ثانية فأجابها صارخاً أهلاً من معي
حواء في الطرف الآخر ولشدة رعبها، انعقد لسانها في هذه الحظة أدرك آدم أنه أرعبها بصراخه، فكرر حديثه بنبرة هادئة مستهلاً قوله بأنا أعتذر عما بدر مني أهلاً من معي
أجابت: حواء
رد عليها أعلم ذلك ولكن من حواء كيف تعرفينني وكيف لي أن أخدمك؟
تمتمت وعجزت عن الجواب..
ماذا ستفعل هل تقول له، أنها تعرفه منذ أيام الجامعة ولكن هذا حديث طويل لن يتحمل سماعه من أول مكالمة، حسناً سأبقي نفسي مجهولة
أجابته: أعرفك لكونك طبيب مشهور
آدم في سره (أي طبيب هذا بل قاتل آثم)
أجابها: وما الذي أستطيع تقديمه لك؟
أجابت: لا شيء أقصد أحتاج استشارة طبية
أجابها: حقاً وهل الاستشارة الطبية تحدث هكذا على الهاتف
أجابته: لا أعني أنني أحتاج استشارة طبية، ولكن أعاني من فوبيا ورهاب من المشافي والعيادات أرجوك تفهم ذلك
إني أتألم ولكن ذعري، ورهابي أشد من ألمي وهذا ما منعني من زج نفسي في أقرب نقطة طبية، لهذا حادثتك علّك تمد لي طوق النجاة، فسمعتك الحسنة وأثرك الطيب ما دفعاني لطلب العون منك.
سكت آدم لم يجد ما ينطق به، عسرت عليه اللغة بكل أحرفها في صياغة رد مناسب
خاصة أن السمعة والأثر الذي تتحدث عنه تلك الفتاة، قد دنسها ولطخها بفعلته النكراء.
أجابها: حسناً ولكن ليس الآن فأنا منهك، وهذا ليس صالحك سأعاود محادثتك حين أستعيد شيئاً من طاقتي.
حواء: حسناً شكراً إلى اللقاء
آدم: إلى اللقاء.
ثم عاود طرح نفسه في الفراش، ومرّ يومان وآدم حبيس فراشه لا يقوم بشيء سوى تجرع أقداح من القهوة، ونفث دخان السجائر هنا وهناك يتخلل هذا الروتين المقيت بضع لقيمات يجبر نفسه عليها حتى يستطيع جر نفسه نحو المطبخ وتحضير القهوة
أما ليلاً يلاحقه طيف مريضه، وتبدأ جولة مصارعة بينهما يحاول آدم الاختباء والفرار منه لكن عبث، فهو يتراءى له في مكان.
يغمض جفنيه يسد أذنيه فيشعر به يلامس كتفه، ويهمس له لقد قتلتني جعلت زوجتي أرملة وطفلي يتيما، كيف لك أن تدعو نفسك بأنك طبيب تمنح المرضى الدواء على العكس تماماً أنت داء بهيئة بشر.
يستمر هذا الشجار حتى يقع في النهاية مهزوماً مبرحاً يتكور على نفسه.
في الصباح الثالث، وعند العاشرة تحديداً عاد اسم حواء يتصدر شاشة الحاسب
رمق الشاشة وامتعض، وقال: رباه كيف لي بردعها.
توقف الاتصال فجأة، وحل محله رسالة منها تقول فيها: أنا أعلم أن خط الأطباء سيء للغاية ولكنني لم أكن على دراية بأن ذاكرتكم سيئة أيضاً
أنا على عتبة بابك منذ يومان، ألا يسعك النظر في أمري
لم يدر آدم كيف يصيغ لها رداً مناسباً يناسب سؤلها، فراح يكتب اعذريني حقاً لقد خانتني الذاكرة أيضاً هذه المرة هيا أخبريني ما بكِ؟
أجابت: لست أدري هي وخز يقنص قلبي بين الفينة والأخرى
آدم: هل تعانين من أمراض قلبية مثلاً أو ما شابه؟
أجابته: لا صحتي جيدة، ولكن هذه الوخز الذي يصيبني جديد وأنا أشعر بالهلع نحوه أرجوك أرشدني ماذا يتوجب عليَّ فعله أخرجني من بطن الحيرة.
أجابها: حواء عليك الخضوع لفحص، وإجراءات طبية الأمر ليس بهذه السهولة لست عرافاً لأتنبأ هكذا من خلف الشاشة.
صمتت قليلاً ثم أردفت قائلة: حسناً إن كان ولا بد من ذلك فهل يمكنك إجراء هذه الفحوصات لي، هذا سيجعلني أشعر بالارتياح أكثر.
صاح في وجهها: لا لا يمكن أنا متغيب هذه الفترة عن المشفى والآن اعذريني على الذهاب.
صباح اليوم التالي وجد رسائلها تنتظره تقول فيها أنت لا تعي هول الأمر لي، إن كنت مسافراً أو متغيباً عن عملك فإنني سأنتظرك لحين عودتك.
قرأ الرسالة وامتعض وهمس لنفسه رباه ألا يكفيني ما أحمله من جبال على كتفي، من أين جاءت هذه المجنونة أيضاً؟
انصرف لتحضير أفيون المعتاد، وقضى يومه كسابقه الكثير من الكافيين والصراخ والنواح.
خيم المساء على المدينة وقارب الليل على الانتصاف، الصمت سيد المشهد لا شيء في هذا المنزل له صدى سوى نفس آدم وفجأة خرق هذا الصمت صوت إشعار جديد تأكد أنها هي حواء، ومن يقوم بهذه الأفعال المعتوهة غيرها لكن هذه المرة انتابه الفضول لمعرفة ما تريده فقرأ رسائلها: سأعتبر صمتك هذه علامة للرضى، وبما أنك الآن مستيقظ ووحيد هل لي بقضاء الليلة معك أنا أعلم أنك وحيد في كنفك ما يعني أن لا أعذار للهروب.
جعل يحملق في الشاشة، ويعيد قراءة الرسالة مراراً وتكراراً ما بالها أيعقل! أن نسبة الجنون تزداد ليلها، في الأوقات المتأخرة.
أجابها: ومن قال لك أني وحيد، وكيف تعتقدين أنني سأشاطرك السهر هذه الليلة
أجابته: حدسي حدس النساء، لا يخطئ أنت لا تعلم قوة حاستنا الساسة في مثل هذه الأمور
أجابها: ها أنا هنا عن ماذا تريدين أن نتحدث؟
أجابته: عن أي شيء يفرحك، يزعجك يجعلك تنتشي فرحاً، أو يجثو على صدرك أي شيء يؤرقك، يقلقك يحرم عينك السهاد.
ضربت كلماتها عمق قلبه كما لو أن زلزالاً حدث في داخله كما لو أن أحدهم نفخ في الصور، وبعث ضحيته من تابوتها فامتثل أمامه برداء أبيض.
أغلق حاسوبه الشخصي وفر هارباً نحو فراشه يخبأ نفسه، ولكن لن ينفعه ذلك فالضيف قد حضر ويتوجب عليه استقباله.
بزغ الفجر والحرب مازالت تدور رحاها في غرفة آدم، حتى سقط مغشياً عليه كالعادة، وغط في نوم عميق حتى الظهر نهض كالآلة ومفاصله متيبسة، وعظامه تصر صريراً يترنح، ولا يستطيع الاتزان حاول جاهداً جر نفسه نحو المطبخ لتحضير أفيون المعتاد، ففجع بانتهاء البن.
ماذا عليه الآن فعله؟ هل يواصل ترنحه، ويترك نفسه متخدراً هكذا؟ أم يخرج لشراء البن
غير أن ثيابه، قميص من هنا وبنطال من هناك، خرج بوجه شاحب وشعر أشعث، وذقن لم تعرف التشذيب منذ مدة طويلة
وفي طريق عودته لمح صبياً عرفه منذ الوهلة الأولى، إنه ابن ذلك المريض...نعم إنه هو لكن ليس كما رآه أول مرة فهناك حزن يفيض من عينيه، وأسى يطفو على وجهه أما أمه الشابة الثلاثينية، باتت بهيئة عجوز تجاوزت الخمسين خريفاً
لم يستطع النظر أكثر من ذلك، وراح يركض نحو بيته يلهث ويصطدم بهذا وذاك، حتى وصل بيته وشعر كما لو أن يوم الجريمة يكرر نفسه ثانيةً، لم يدرِ ماذا يفعل؟ يصيحُ ويصرخ لوحده لا أحد يربت على كتفه، لا أحد يدثره يزمله يخفف عنه أو على الأقل ينصت له.
ثم خطرت في باله نعم هي حواء أسرع نحو حاسوبه الشخصي، واتصل بها فأجابته سريعاً وانهار باكياً يصيح رأيت ابنه وزوجته لم تفهم حواء ما يقوله لكنها اتخذت الصمت سبيلاً ريثما يفرغ ما في نفسه يتقيأ ما في جعبته دفعة واحدة
وهكذا ظل ينثر ما في قلبه وهو يجهش بالبكاء تعرى من جبروته المزيف، وبات أمامها طفل صغير يجلد نفسه بسوط الحسرة والندم.
لم يخطئ حدسها كانت متأكدة أن هناك شرخاً ما في روحه لم تكن انقباضات صدرها عن عبث.
أخذت تفكر كيف لها أن تنتشله من أعمق نقطة في القاع؟، كيف ستخيط جروحه؟
بعدما انتهى من الحديث والبكاء، طلبت منه النوم فصوته يشي بأنه معدوم الحيل فيه من الضنك ما لا يطاق
أجابها: يصعب عليّ طيفه يلاحقني أينما قلبت وجهي
أجابته: أنا هنا برفقتك فلتطمئن ستبقي الخط مفتوحاً، وسأبقى بقربك حتى تستيقظ لا تخف، ما رأيك أن أترنم لك ببعض الألحان صوتي عذب شجي سيخفف من وطأة وحدتك.
وراحت تترنم بألحانها تبعث في النفس سلاماً وأمناً وغط في سبات عميق، وعندما استيقظ صاح مرعوباً: حواء هل أنت هنا؟ فأتاه صوتها من الطرف الآخر فسكن واستكان لشعور الأمان التي منحته اياه.
بعدما صحي قالت له حواء: أرجوك حضر لنفسك طعاماً خفيفاً أرجوك افعل ذلك
صمت قليلاً ثم وافقها، ونهض يتناول ما يقيته وعاد إليها حاملاً كوب قهوة وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث في أمور الحياة باختلافاتها، فقاطعها قائلاً: أنا أحتضر كيف لي أن أنجو، الذنب ينهش ما تبقى مني ونار الخطيئة تشتعل في أحشائي كل ليلة.
أجابته: آدم أعلم أن هذا الأمر صعب وقاس، ولكن أنت لم تفعل ذلك عمداً لست أبرر لك فعلتك لكن عليك تخطيها، هناك الكثير من المرضى على عتبة عيادتك كلهم غرقى في أحزانهم وآلامهم ينتظرونك، حتى تمنحهم القشة
عليك أن تعود.
لم تروقه فكرة العودة فقد بات يشكك بقدراته، ولم يعد يثق بنفسه فأجابها: أمر العودة هذا منته يداي ترتجفان دائماً لا أستطيع تثبيتهما ثلاثة ثوان، فكيف لي أن أحمل إبرة هذا الأمر منته، ولا أود النقاش به
صمتت قليلاً ثم قالت: حسناً يمكنك أن تساعد هذه العائلة كونك ذكرت لي أن حالهم المادي ليس باليسير يمكنك حمل كتف عنهم بشكل خفي.
أعجبته الفكرة فيد العون الذي سيمدها ستقشع الغمامة السوداء المحيطة بهم.
وبهذا شرع الاثنان يخططان لآلية التنفيذ، وبعد الانتهاء لوى آدم ثغره مبتسماً، وانفرجت شفتاه بعدما اعتادت التهكم والعبوس الدائم.
أحس آدم في سريرة نفسه أنه أثقل كاهلها بحمله، فانسحب متشكراً اياها.
وفي اليوم التالي بدأ بإرسال مساعدات لهذه العائلة، واستمر في هذا لأسبوع وفي كل يوم تُزف له أخبار سعيدة عن مدى فرحة الزوجة والأطفال بما يصلهم من عون.
وبعد أسبوع أرسلت له حواء رسالة مفادها أنها تريد محادثته لأمر طارئ فأجابها مسرعاً: حواء ما بك؟ أثارت في نفسي قلقاً.
أجابته: عليك العودة للمشفى
صاح رافضاً لا لا أريد اقتراف ذنب جديد، راحت تتوسل إليه وتطلب منه التفكر، واستخدام حكمته التي عُرف بها ولكنه أبى وظل يقطع السبل عليها، حتى أجبرها على إنهاء المحادثة.
صباح اليوم التالي وصلته رسالة من إحدى زملائه في المشفى يخبره فيها: أن هناك مريضة تحتاج عملية طارئة ولا أحد سواك مناسب لهذا الأمر، إنها فتاة في مقتبل العمر عودها ما زال أخضراً، ولكن الألم يفتك بجسدها عليك ألا تخذلها، نأمل مجيئك عند الثالثة.
حملق بحروف الرسالة، وسرح في فكره حتى قاطع شروده رسالة من حواء تقول له فيها:
صباح الخير آدم كيف حالك؟
أنا اليوم أشتهي نثر ما في قلبي اتجاهك
آدم أنا أعرفك منذ أيام الجامعة، لكنك لا تعرفني فقد كنت أتحاشاك رغم أنك تملكت قلبي منذ النظرة الأولى، وحتى هذه اللحظة لم يحظ أحد بي سواك.
يا عزيزي أنا أحبك منذ ذلك الوقت، لكن الخوف قمع رغبتي في المبادرة بأي تصرف من شأنه أن يعلمك بوجودي، فبت أتخفى عنك وأكتفي بمراقبتك من بعيد.
رغم أن قلبي لا يميل إلا إليك، إلا أنني كنت في كل مرة أعاود سجنه فيما إذا حاول الفرار نحوك
وهكذا حتى أنهينا فترة الجامعة، ورحت أنت في حال سبيلك، وبقيت أنا غارقة في خيبتي فأنت وحدك تسكن قلبي وأنت وحدك دون الناس تبكيني.
أنا الآن في حالة حرجة أنا الآن أحتاجك أحتاج آدم الشجاع صاحب الحكمة العظيمة
أحتاج آدم الحنون الذي كشف لي عن خفايا نفسه، فما أبصرت سوى قلب رهيف وروح وديعة.
آدم إنني أحتاجك أن تقبل الحزن القابع على جفني، أحتاج آدم الطبيب الذي يشعر المريض بيديه بكثير من الأمن لفرط ثقته فيه.
على أية حال ورغم ثقتي فيك، إلا أنني أحبك وسأبقى أحبك مهما كان قرارك.
في هذه اللحظة شعر آدم كما لو أن القدر وضعه على الصراط المستقيم أمامه الجنة، وتحته نار جهنم إن أحسن خطاه حظيّ بجنات عدن، وإن التوت خطاه التهمته ألسنة النار.
جلس على كرسيه حنى ظهره وعقد كفيه يفكر ملياً، وفجأة نهض مسرعاّ ارتدى ثيابه عدل مظهره، وهمس لنفسه أريدها أن تراني بهيأة كسابق عهدي
ذهب نحو المشفى دخله بخطى واثقة اتجه نحو مكتبه طلب التجهيزات اللازمة للعملية وراح يجهز نفسه، ثم دخل غرفتها حيث تقنط وجدها مستلقية ورغم كدمات الألم الطاغية على ملامحها كانت جميلة وديعة وبهية. أمسك بيدها فأحست به فتحت عيناها، ورأته بلباسه الطبي يقول لها لا تقلقي ستكونين على ما يرام أومأت برأسها وابتسمت له.
تم نقلها لغرفة العمليات، ودخل آدم الغرفة انتابه شيء من الخوف فنظر إلى وجهها ليستمد قوته، وكان له ذلك وشرع يقوم بالعملية التي استمرت مدة ليست بالقصيرة هكذا حتى انتهى فأجابها: أمر كل شيء، ولكن هذه المرة بانتصار عظيم استطاع انقاذها واقتناص الألم في جسدها.
جلس بجانبها ينتظرها أن تصحو ليبشرها بالنتائج فتحت عيناها، فوجدته بجانبها يمسك بيدها وعيناه تشع ألقاً وبريقاً ما جعلها تدرك أنها في أفضل حال، وأن حبها سيكلل أخيراً بوصال أبدي."
روان إدريس

0 تعليقات