روند عمريطي | توّحد بريشة رسام



-توَحُّدٌ بِريشَةِ رسَّام:

-تخيّل أن تُراوِدكَ فِكرةٌ وتُريد أن تُعبّر عنها أو أن تكتُبَها ولا يُمكنك إيصالها و عاجِزٌ عن إيجاد مُفرداتٍ مُناسبة لِنُطقها، في أن تكون لديكَ حواسٌّ لا فائدة مِنها، و ملامح وجهِكَ لا تعابيرَ و إيماءات فيها، أو تخيّل أن يكون بداخلكَ شعوراً لا يَظهر وتواجِه صِراعاً بين ما تَرغبه وما تَقوم بِه، أو أنّكَ خائفٌ مِن قُرب أُناسٍ مِثلك مِن أن يَلمسك أحدهُم ومن عدم تقبّلك للعِناق، أو أن تكون لُغتَكَ غير مَفهومة لا تُشابِه لُغة مَوطنك وكلماتكَ مُكرّرة، أن يَهتزّ رأسكَ أو جزءاً من جَسدك دون إرادةٍ مِنك، وتُصبيكَ نوباتُ صرعٍ بين الفينةِ والآُخرى، في أن تعيشَ الحياة كتِمثالٍ لا تسمَع، لا تَرى، لا تتكلّم.
تخيّل أنَّ هذا واقعي وهذهِ هي حقيقَتي.

فقَد كانت بِدايتي نطفةٌ في رَحم أُمّي، ثُمَّ تكوّن شَكلي بأمر خالِقي،كنتُ الابنَ البِكرَ لِعائلتي وفَرحَتهُم الأولى.

تِسعةَ شهُورٍ أعيشُها في ظلامٍ دامِس، أتكوّر وأتقلّبُ في مكانٍ واحِد، أسمعُ صوت والِدَيّ كيف يتوقّعون هَيئتي، ومن أُشبِه مِنهُما أكثر، وما سيكون اسمي، فأنتظِر متشوّقًاً اكتِمال نموّي؛ لأرى النّور وأراهُما.

وبِحسب تَوقيت حَملي فقَد حانَ مَوعِد وِلادتي، أُمّي تصرُخ وتَبكي مِن الألم، وأبي يُمسِك يَديّها ودموعهُ تَنسابُ على وَجنتيه أيضاً، لَكِن بَعد خروجي إلى الدُّنيا وَوضعي بين أحضانهم كان بُكاء أعيُنهم لِفرحتهم بي، وعَلِمتُ كم أن والِدَيّ يُحبّانني.

مَضت سنةٌ مِن عُمري وكُلّ شيءٍ بي طَبيعي، لَكِن بعدَ إتمامي العام الثّاني بدأ والِداي يُلاحِظون أنَّ لديّ سلوكاً يُخالِف الأطفالَ العاديّين مِن عُمري.

فلا أستَجيبُ لهُم عِندَ مُناداتهم لاسمي، ولا أنظرُ إليهم حينَ يُلاعِبانني أو أبتَسِم، كُنتُ أسمعهُم وأراهُم لَكِنّ عَقلي يُعطي أوامِرَ لِجسَدي وحواسّي بألّا يُبدِيا أيَّ ردّة فعلٍ لِما يَقومان بهِ أمامي، وزاد خوفهُم وقلقَهم حينَ أخذوا بي إلى طبيبٍ مُختصٍّ وأخبرهُم بأنّي طفلٌ مُختلِف، وبأنّي توحُّدي.

قال لهُم بأنّي أُعاني مِن اضطّراب طَيف التّوحُد أو الذاتويّة وهو اضطّرابٌ في النّمو العقلي، ناتِجٌ عَن خللٍ عصبيّ في الدِّماغ ممّا يؤدي إلى ضُعفٍ في التفاعُل الاجتَماعي، ونقصٍ في مهارات التّواصل والقيام بِبعض السّلوكياتغَير المرغوب فيها، وبأنّهُ ليس مرضاً لكن يحتاجُ منهُما اهتماماً وعِنايةً بي أكثر.

جُنَّ جنونَ العائِلة بِما سَمِعوا، لكنّهُم وحدَهُم والِدَيّ من تَقبّلونني، وأدركتُ مدى حُبّهم لي.

صحيحٌ أنّهم في البِداية كانوا يَشعرون بالحُزن، فقَد كنتُ أمشي بخطواتٍ رَكيكة وأواجِهُ صعوباتٍ في اللُّغة والعلاقات والسّلوك، كان خوفهم الدّائِم مِن أن أُؤذي نَفسي؛ فحواسي ضَعيفة أو بِلا شعور، لكن وَضعي كانَ أفضل بِكَثير من أطفالٍ آخرين، فأنا لستُ عِدائيًّاً ومَحبوبًا، لكنّني لا أستطيعُ التّعبير بشكلٍ واضِح.

وبدأت تتغيّر حَياتي خلال مَرحلة العِلاج المُطوّلة التي ساعدَتني في تَنمية مهاراتي السلوكيّة واللّغويّة، وتَحسين التّكامُل الحسّي واكتسابي مهاراتٍ حركيّةٍ دَقيقة، مثل: استِخدام المِقَص والكِتابة وارتِداء المَلابِس، وأيضاً في تَحسين قُدرتي على المُشاركة في الأنشِطة اليوميّة.

لَم أعُد شخصاً مُنعزِلاً ومُتقوقِعاً على نَفسي بِالكامِل، وأصبح لديّ أصدِقاء، أليس هذا جميلاً؟
لَكِن أتعلمون ما هو الأجمَل مِن ذلِك؟

حين اكتَشف والِداي مَوهِبَتي في الفترة التي مارستُ فيها طريقة العِلاج بالرّسم وهي إحدى الطُّرق التي اتّبعَها طَبيبي المُختص لأُعبِّرَ بِها عمّا بِداخلي، ومِمّا ساعَد في ذلِك هو قُدرتي على التركيز بنسبةٍ عالية وسُرعة التعلُّم وتذكُّر الصّور والتّفاصيل لِمُدّةٍ طويلة، وهذا ما أخبرهُم بهِ طبيبي وزادهُم فخراً بي وبأنّي طفلٌ مُميّزٌ ومُبدع.

وكما تعلمون أو رُبّما لا تعلمون، فإنَّ التَوحُّدي يتعلّق أو يرتَبِط بغرضٍ مُعيّن يبقى معهُ أو يُلازمهُ، ولا يسمحُ لأحدٍ بِلمسه، ويَنزعجُ أو يصرُخ إن حاولَ أحدٌ أخذَ خاصّته منه.
فقَد كانَت ريشَتي هي رفيقة دَربي وما تعلّقتُ بهِ حين أمسكتُ بِها في المرّة الأوّلى، كان مَلمسها رائِعاً وتداخُل اللّون بين شُعيراتها ومرورها على اللّوح يُثيرُ بي إحساساً -كالعادة_ لا يوصَف لكِنّهُ يبعثُ بِداخلي السّعادة والبهجة.
كانت رسوماتي تعكِسُ رؤيَتي لِلحياة، فَلي باللّوح مَساحةٌ كَبيرةٌ أرسمُ فيها الشّعور الذي يَعتريني.

الآن وبِمُساعدة والِدَيّ وطبيبي المُختصّ ودَعمهمُ لي ولِمَوهِبَتي وإيمانهم بِقُدراتي، أفتتِحُ مَعرضي الأول بِعُمر الثانية عشرة سنّةًً لِيَرى العالمَ لَوحاتي، ويُدرِكوا ما يَجهلون عن التّوحُّد، وبأنَّ التَوحُّد ليس عائِقاً .

وأنتَ أيُّها القارِئ لا تدَع شيئاً يَقِف أمام تَحقيق حُلمك وما تسعى لأجلِه، ومهما واجهت في هذهِ الدُّنيا لا تيأس، بَل أكمِل طريقكَ، لا تستَسلِم، و ضَعْ بَصمة وجودكَ على هذهِ الأرض وكُن مثلاً أعلى وقدوةً لِغيرك

.

-رُوَند عَمريطي.


إرسال تعليق

0 تعليقات