آية رحمو | على أطلالها تركيا كارتال



سريرٌ تطلُّ عليهِ أشعّةُ الشّمس، وتعكِسُ لونَ عَينَيها النّاعِستَين؛ لِتُشكّلَ لَوحةً خُرافيَّةَ البساطةِ والجمال.
المعرضُ اليوم، أخيرًا ستُعلِنُ عنْ دِيوانِها الجديد، وستلتَقي بِه، صاحبُ الفنِّ الّتي ضَجّت باسمِهِ كارتال وما حَولَها، نهضَتْ بكاملِ رشَاقتِها، لَملمَتْ خصلاتِ شعرِها الطّويل، وقفتْ أمامَ مرآتِها مغازلةً نفسَها، قائلةً بلَكْنتِها التُّركيّة: "صباحُ الجمالِ يا أميرةَ كارتال "، حضّرت فنجانَ قهوتِها، أشعلتِ المذياعَ على لحنٍ هادئٍ، وبدأَت تُقلِّبُ دفترَ يوميّاتِها كَالعادة.
على الاتّجاهِ الآخرِ آدم، بدأَ برياضَتِه الصّباحيّة، مقلباً الأفكارَ في رأسِه، كيف سيكونُ معرَضُ اليوم؟؟
وما سرُّ الفتاةِ الملائكيّةِ التي رآهَا في منامِه، وطالبتْهُ بألّا يتأخّرَ، وبأنّها تنتظرُهُ؟
وما اللغزُ وراءَ الجملةِ الّتي كتبَتْها لهُ على راحةِ يدِه ""قلبُكَ الباحثُ عنِ الحبِّ معلَّقٌ علَى أطلالي"".
تناولَ فطورَهُ، جهّزَ نفسَهُ وأوراقَهُ، وانطلقَ بكاملِ هَيبتِهِ؛ باحثًا عن إجاباتٍ للأسْرارِ الّتي خلّفَتْها رؤياه في ليلتِهِ الماضية.
اليومُ المنتظرُ لَدى كلَيْهما، الفنُّ أرواحُهما والملتقى، ولكنْ منْ كانَ يعلمُ أنّهُ مِنهُ وعندَهُ ستكونُ شرارةُ حُبِّهما.

قاعةُ المعرضِ مكتظّةٌ، فيها الكُتّابُ والقُرّاءُ والحِرفيُّونَ والرَّسّامون والأقارب، والكثيرُ من عامَّة ِالنَّاسِ الشغوفيِنَ في الفنّ.
وقفَ مُقدِّمُ الحفلةِ مُرحِّبًا بالحضورِ، مُنادِيًا على حواء؛ لِتكونَ كلماتُها العذبةُ استفتاحيَّةَ الليلةِ، تقدَّمَتْ بانسيابيّةٍ ورِقّةٍ، خاطفةَ الأنظارِ بطلتِها المحتشمَةِ المبهرة
كانتْ الفتاةُ الوحيدةُ المُحجّبةُ من بينِ فتياتِ الحضورِ، لِعينَيها العسليَّتَينِ بريقٌ يشعُّ دِفئًا، ولِوَجنَتَيْها نصيبٌ كبيرٌ من حُمرةِ الخَجل.
ومنْ بعدِ التّحيَّةِ ألقَتْ قصيدَتَها وسطَ اندهاشِ ومحبّةِ الكثيرينَ لِكلماتِها، وللِعبها على وترِ المشاعرِ ولِتَقلّبِ نبَراتِ صوتِها العذبَ سحرٌ خاصّ.
كلُّ النّظراتِ كانتْ من جمهورٍ محبٍّ اعتادَ على إبداعِها، وحدَه ذاكَ الّذي وَكأنّهُ أمسَى عاشقًا مندهشًا.
ذات الملامحِ الملائكيّةِ الهادئةِ، أضغاث أحلامٍ أمْ محضُّ صدفةٍ أمْ قدر؟
انتهَت حواءُ، وتهاتَفَ الجميعُ عليها. ومن بعدِها كلُّ فنّانٍ قدّمَ ما لَديهِ.
لفتَ انتباهُ حواءَ لوحاتٍ فنيّةٍ للخَطِّ العربيّ. القلبُ الدِّمشقيّ والرّوحُ العاشقةُ للّمْسةِ العربيّةِ، وسحرِها لم تؤثر به ولادتُها في الغربة، الحرمانُ أصبحَ غرقًا، وازدادَ التّعلُّقُ أكثر، اقتربَت تلتَمِسُ الأحرُفَ المرسومةَ بعنايةٍ فائقةٍ وإبداع، أتاها صوتٌ هادئٌ من ورائِها:
- يبدو أنّها حازت على إعجابِكِ؟
- أعشقُ كلَّ أنواعِ الخطّ، لكنّ هـذِه اللّوحةَ فيها سحرٌ خاصّ، مكتوبةً بحُبٍّ كبير، وطريقةُ دمجِ الخط ِّمعَ الرّسمِ فاتنة.
- ليَ الشّرفُ أنّها حظيَتْ بكلماتكِ الرّائعة، شكرًا لكِ.
- الكلماتُ لا تكفي، هي للبيعِ صحيح؟
- نعم، هيَ كذلكَ.
ضحكت بخفّةٍ وقالتْ بفرحٍ:
- ستكونُ لي.
اتّفقا على اللّوحةِ، ولِغايةٍ في نفسِها طلبتْ توقيعَهُ الخاصّ على ورقةٍ صغيرة.
انتهى العرضُ، عادَ آدمُ برأسٍ مُثقَلٍ بالأفكارِ، لا يعلمُ ما الّذي حلَّ به، لا كلماتٍ ولا تفاسيرَ تسعِفهُ؛ ليستوعبَ ما حصلَ، رمَى جسدَهُ على السّريرِ وابتلعَهُ تفكيرُه.
- آدم، ما بكَ يا رجُلُ؟ قد تكونُ أضغاثٌ لا أكثرَ
- كانَ شيئًا ما بها يشُدُّني، ساحرةٌ!
- لا لا، استيقظْ وعُدْ إلى رُشدِكَ، أنتَ واعٍ، اهدَأ وكُنْ حكيمًا كما أنت
بعد صراعٍ طويل، استسلمَتْ جوارحَهُ للنّوم.
أمّا حواء، فلا تعرفُ ما تعنِي راحةُ بلا تحليلٍ في كلِّ شيءٍ وتدقيقٍ بالتّفاصيل، عادَت لمنزلِها أفسحَتْ مكانًا للوحةِ وعلّقَتْها، بدّلَت ملابِسَها، أخذَت فُنجانَ قهوتِها، وبدأتٍ بفكِّ الأُحجيات وإرضاءَ فضولها، جلبتِ التّوقيِعَ، وأخذتْ تُحلّلُ شخصيّةَ آدمَ منه.
- نهايةٌ دائريّةٌ مَزخرفة همم وهذا رأسُ الخيط، يحبُّ التغييرَ والتّطلُّعَ للثقافاتِ الأخرَى، ولهُ ذَوقٌ فنّيٌّ خاصٌّ، أشكالٌ مُحدَّبة، ها يا سيّدَ آدم، حكيمٌ ودُبلوماسيٌّ أيضًا، تعلمُ جيّدًا ما يُحبُّ أن يسمعَهُ النّاس، ولبقٌ بِقَوله، لستَ هيّنًا أبدًا.
ملايينَ الأفكارِ تزاحمَتْ في رأسِها، شخصيَّةُ آدمَ، اكتشافاتُها عن علمِ النّفسِ التي وضعَتها على منصّةِ البحث، إتمامُ قصيدةٍ بدأتْها، لينتهي بها المَطافُ غارقةً في النّوم على الأريكةِ ذاتِها.
بعدَ مدّةٍ ليستْ بطويلةٍ كان كلاهُما يُلاحِقُ الآخرَ بحُجّةِ عملٍ أو استشارةٍ، حتّى أصبحَ كلٌّ منهُما جزءًا من يومِ الآخر.
آدم
من بعدِ اليومِ ذاكَ، تغيّرتْ المفاهيمُ، حواءُ فتاةٌ رائعة، بياضُها، صوتُها، ثقافتُها، واطّلاعُها على كثيرٍ من العلومِ يجعلُكَ عطِشًا لا ترتوي منها، رغمَ الحُججِ القليلةِ الّتي أخترعُها لأتكلّمَ معها، وأرى نظرتَها للأمور، إلى أنَّ هذا القليلَ عَظُمَ في قلبي.
الأكثرُ إثارةً ومُتعةً أنّها لا تترُكُ باباً مُوارِباً، تتحدّثُ بكلِّ وضوحٍ، فلا مجالَ للإطالةِ والجدل، وعلى ثقةٍ أنّ هذا الأمرَ لم يُوجَد بها عبَثًا، مُلتَزِمةٌ بحديثِها ولباسِها وحضورِها، وكلُّ تلكَ الأشياءِ لم تكُنْ هيِّنةً على قلبٍ كقلبي.
دامتْ هذهِ الفترةِ ستّةَ أشهرٍ، كانَتْ كفيلةً لِتُعطيَني قرارًا يُوضّحُ خطُواتيَ القادمة، اتَّصلتُ بها واستأذنْتُ لأخذِ مَوعدٍ لزيارتِهم، وأنَّ مَوضوعاً ما يجبُ أنْ أتكلّمَ معَها فيه.
والدُها مُتوَفَّى ولا تملكُ إلّا والدتَها، هيَ عائلتُها ودُنياها، ولا تأتي للعيشِ معها إلّا ما ندَرَ؛ بحُكمِ تعلُّقِها ببيتِها في قريةٍ تابعةٍ للولايةِ، كما وضّحتْ لي حواء.
حواء
آدمُ شخصٌ رائعٌ حقاً بكلِّ ما فيه، عرضِ منكبَيه، شعرِهُ الأسود، عينًيه الواسعتين، ثلاثيٍّ حكيم، عظيمِ الشّكيمةِ، مهيبِ الطّلّة، أخلاقُهُ وروحُهُ سحرانِ آخران، على مقاسِ القلبِ تمامًا. طلبَ موعدًا مع أُمّي، جلسْنا وتحدّثْنا بالكثير، يعيشُ مع صديقٍ له، يذهَبُ لعملِهِ في مكتبٍ للمُهنْدّسين، ويقضي مُعظمَ وقتِهِ فيه.
ظننتُها ليلةً عاديّةً، وموضوعٌ ما يخصُّ شراكةً أو عملًا، لكنَّ الموضوعَ كانَ أنا، وتقدّمَ لِخُطبتي.

صلّيتُ ركعتيّ الاستخارةِ، ودعَوتُ اللهَ إنْ كانَ أحدُنا لا يستحقُّ الآخرَ، فليُبعّدِ الرحمن بينَ دَربَينا، ويعوضنا خيرًا. المشيئةُ الإلهيّةُ أرادَتْ جمعَنا، أقمْنا خطوبتَنا بعدَ شهرٍ ونصف، واليومُ قد أتمَمنا السّبعةَ أشهرٍ معاً.
حزنُ أحدِنا يمحيهِ ضحكُ الآخر، وإنِ اعوجَّ أمرٌ أقمناهُ بالقربِ من الله.
في يومٍ استَيقظْتُ من نومي، مُتعرّقةً مُتعبَةً وعطشى، شعرتُ بجسدي مُنهكًا لا طاقةَ لِي بتحريكِه، تراودَ لرأسِي خيالاتٌ لم أفهمْ لَها معنىً، قطّةٌ بيضاءُ كنتُ أحتضُنُها وهي تتعلَّقُ بثيابي وتشْتمُّني بطريقةٍ غريبة، وشخصٌ لا أعرفُهُ يفتَرشُ السريرَ ويُراقِبُني بحجرِ عينِهِ دونَ حراك، نظرْتُ للسّاعة ِالثالثةَ والثلاثينَ دقيقةً، نظرتُ لهاتفيَ الخليويِّ شحنُهُ ثلاثةٌ وثلاثونَ، مع أنّني أحرُصُ دائمًا على ملْءِ بطّاريّتٍهِ وإغلاقِه، تناسَيتُ الموضوعَ، تناولتُ كأسَ الماءِ رأيتُ في أسفلهِ دَماً على شكلِ ثمانيَةٍ في وسطِها خطٌّ، ألقَيتُها فَزِعةً من المَنظر، بقيتُ أُتمْتِمُ بآياتٍ من القُرآنِ لمُدَّةٍ لا أعرفُها حتّى غفَوتُ، صحَوتُ على مسحٍ خفيفٍ على يَديّ وخصلاتِ شعري.
- صباحُ كلُّ الأشياءِ الحُلوةِ في الدُّنيا الّتي تبدأُ معكِ ولا تنتهي إلّا بكِ، أعتذرُ عن انشغاليَ البارحةَ ببعضِ الأمورِ عنكِ، سأعوِّضُكِ اليومَ، أنا الآنَ رهنُ إصبَعِكِ، وكُلّي تحتَ تصرُّفِكِ.
- شيءٌ ما في داخلِي أرادَ أنْ يَرُدَّ عليهِ بحُبٍّ كما يفعلُ هو كلَّ مرَّةٍ، جسمي تخدَّرَ وشتائمُ أصبحتْ تخرجُ من فمِي، وكلامٌ بذيءٌ لم أعِ ما هو، كلُّ ما أتذكّرُهُ صفعتي لَهُ على خدّهِ الأيسر، وخروجَهِ بلا أدنى ردَّةِ فعلٍ.
وجعٌ لا يُوصَف في أنحاءِ جسدي كُلِّهِ ولا أعرفُ سبَبه، وجهي شاحبٌ مُرعِب، اغتسلتُ وأخذتُ هاتفي، كيف سأبدَأُ حديثيَ معَ آدم، حقّاً لا ذنبَ لي، ولم تكُنْ إرادتي الّتي فعلتْ ذلك، وما عليَّ أن أشرحَ، بكيتُ حتّى انتفخَت عيناي، لم تكُن بيدي حيلةً، ضائعةٌ مُشتّتة، ضغطتُّ على زرِّ الاتّصال، الاتّصالُ الأوّلُ والثاني والثّالثُ وما من إجابةٍ، في الاتّصالِ الثّالثِ وعلى آخرَ ذرّةِ أملٍ أتاني صوته:
- كانَ لديكِ آلافُ الأساليبِ لتَشرحي لي سببَ انزعاجِكِ وسأفهمُكِ، إلّا ذاكَ الأسلوبَ الفظَّ الفاقدَ لكُلِّ أنواعِ الحُبّ، على أيّةِ حالٍ، لستُ بمزاجٍ جيّدٍ للنّقاش، نتكلَّمُ فيما بعد.
خجلتُ من نفْسي لدرجةِ أنّني تمنّيتُ لو أذوبُ ولا يبقى لي أثراً، بعدَ كلّ ذلك، يُجيبُ بالهدوءِ ذاتِهِ الّذي اعتدتُّ عليه، حاولتُ ألّا أستسلمَ للتّفكير، ولجأتُ كعادتِي للأوراقِ والقلم.
مرَّ أسبوعٌ عليَّ كالعلقمِ بل أشدِّ مرارةً، أحلامٌ قَذرةٌ أصبحَت تُرافقُ لَياليِّ، وخيالاتٌ أكرهُ نفسِي حينَ حُضورِها، لم يعُدْ باستطاعتي التّفريقَ بين حُلمٍ أو واقعٍ، حاولتُ الانشغالَ علَّهُ ينْتشِلُني ممّا أنا فيه، حضرتُ درساً في الجامعةِ وفَورَ خروجي قصدتَّ محلاً للورودِ أخذتُ باقةَ نرجسٍ، وتوجَّهتُ لمكتبِ آدم، كانَ واقفاً بجانبِ البابِ يحملُ كوبَ شايٍ، ووجهُهُ قد بانَ عليه التّعب.
- اشتقتُ لكَ كثيراً، أتقبلُ عينيَّ هديّةً مع الورودِ، وتُعطني بعضًا من وقتِك؟
لاحَت على شفتَيهِ ابتسامةٌ خفيفة، تلكَ التي تُحلّقُ بي لكونٍ آخر.
- سأجلبُ مِعطَفي، ثوانٍ فقط
مشينا مسافةً نبتعدُ فيها عن الّضجّةِ قليلًا.
- أتَيتِ لِتصمُتِ؟
- لا لا، أنا فقط لا أجدُ تراكيبَ تُوضّحُ ما حدَث، آدمُ أُقسمُ أنّني لم أكُنْ بوعيِّ البتّة، كنتُ مُخدّرةً تمامًا.
- حواء لم أكُنْ يومًا لأشُكَّ بأنَّ عينَيكِ هاتَينِ تنطقانِ بغيرِ الصّدق، الموقفُ صعُبَ عليَّ تصديقَهُ، وأنتِ بدلَ أن تُصلحيِ ما هدّمتِه، وتطفئي النّارَ التي أوقدتِّها بداخلي تركتِني أيّامًا بلا أيِّ مُبرّرٍ، النارُ أصبحتْ رماداً يا حواء رماداً...!
حاولتُ إمساكَ يدِه لِتكونَ رسالةً أنّني أحتاجهُ، أو إرضاءً لقلبيَ ومشاعري، فهوَ حبيبي وشريكيَ الّذي سأُكملُ معَهُ حياتِي كُلَّها، ولم يكُنْ شخصًا عاديًّا، آدم رزقٌ وهبَنيَ اللهُ إيّاهُ، ورفيقُ الأيامِ العِجافِ الّتي اخضَرّتْ بوجودهِ فيها، أحسستُ أنّني شخصيّتان: أنا أريدُهُ بكلِّ جوارحي، وجزءٌ منّي ينفرُ كما لو أنّهُ شيطانٌ أمامي!
بينَ ثانيةٍ وأُخرى، لم أرَ نفسيَ إلّا على السّرير في غُرفَتي، كيفَ ومتى؟ لا أعلمُ، ولا أعلمُ عمّا يتحدّثونَ، ما يعني أنّني بتُّ أصرخُ وأنزعُ عنّي ثيابِي، حتّى أُغميَ عليّ، -جُنِنتُ أنّني لا أذكرُ أيَّ شيءٍ ممّا قالوه- الوضعُ تفاقمَ بشكلٍ لم يعُدْ بوُسعيَ تحمُّلُهُ، وقطعًا هُناكَ أمرٌ، حياتي أصبحَتْ عبارةً عن مُسكّناتٍ، حَبِّ مُنوِّمٍ، وأوراقٍ أُسطّرها بأوجاعٍ لا تُشكى ولا تُبكى ، المسافةُ بينيَ وبينَ آدمَ شاسعةٌ، كلٌّ في عالمٍ مُختلف، لم أتركْ تحليلاً ولا مُستَشفًى ولا طبيباً إلّا ومررتُ بهِ، ولا علاجاً أو تفسيراً لِمَا يحدُث، بحثتُ طيلةَ خمسةِ شهورٍ في الأمراضِ النّفسيّةِ الخفيّةِ والوراثيّة، وفي لحظةِ وُصولي لنُقطةِ وُضوحٍ تُهتُ أكثر، قرأتُ عُنوانَ الرّابطِ ويأسي دفعَني لفتحِه، كنتُ غارقةً أبحثُ لو على قشّةٍ هشّةٍ أتمسّكُ بها.
" لعنةُ الحسناوات "
يُقالُ أنَّ في السّبعيناتِ اشتُهِرَتَ كارتال بجمالِ فتياتِها، كُنَّ يجمعْنَ كلَّ مواصَفاتِ الحُسنِ والجاذبِيّة، ومن أجملِ الفتياتِ في ذلكَ العصرِ (آيسال) كانَت فاتِنةً لحدٍّ كبيرٍ، مُدلّلةٌ جدًّا ووحيدةُ أهلِها، كما يُذكَرُ أنًّ لَها عاداتٍ غريبةٍ، تُحبُّ الغناءَ تحتَ ضوءِ النُّجومِ ليلّا، وجريئةٌ بفُضولِها، لا تَهابُ أيَّ شيءٍ، يُقال إنّها لا تملكُ صدَقاتٍ في حياتِها لطبعِها الحادّ، كانَ بُعدُها عن عائلتِها والأشخاصِ حدّةُ مزاج، فأمسى مسّ وكوارث، الجنُّ العاشقُ تلبّسَ آيسال، وأصبحَ كلُّ شخصٍ يلمِسُها يَكتُبُ تاريخَ موتِهِ بأشنعِ الطّرُق، لم تقتصِر أذيَّتَهُ على النّاسِ الذينَ يقتربونَ منها فقط، كانت هيَ الضّحيّةَ الّتي لها نصيبٌ أكبرُ من العذابِ والموتِ البطيء، لِتكونَ نهايتُها انتحارًا من شُرفةِ المنزل . فأعراضُ هذا المسِّ فظيعةٌ لا يتقبَّلُها عقلُ إنسانٍ من لحمٍ ودم، ولا يُمكنُ بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ التأقلمَ عليها ومُجاراتِها.
أغلقْتُ الحاسوبَ، وبدأتُ أسترجعُ ذاكرتي، كلُّ الكوارثِ التي حلّت بي كانت بعدَ لَمسٍ مُباشَرٍ من آدم، والكدماتُ الّتي أصبحَتْ تملأُ جسدي، الأحلامُ السيّئُة الّتي كنتُ أراها بشكلٍ مُتكرّرٍ ولا أستطيعُ التّفريقَ إنْ كانَتْ حقيقةً أم ْهيَ حقًّا أحلام، آثارُها تَبقى، وهي غيرُ ملموسةٍ، متاهاتٌ عدّة.
- لا لن أكونَ ضحيّةَ غرائزِهِ بعدَ الآن، لنْ أكونَ، كيفَ غابتْ عنّي كلُّ تلكَ المدّة، كيفَ كُنتُ غبيّةً لهذه الدّرجةِ؟
أتجرّعُ الأوجاعَ والأشواقَ، أتحمّلُ جحيماً بمآسيه، لم أُكمل جُملتيِ إلّا وأحسسْتُ بحبلٍ يلتفُّ حولَ عنُقي، صرختُ بأعلى صوتٍ، وكلُّ تلكَ القوةِ لم تكفِ ليَخرُجَ الصّوتُ من حنجُرَتي حتّى، رفَعتُ رأسيَ عن حفّةِ الطّاولةِ لأرى كلَّ شيءٍ على ما يُرامُ إلّا أنا، الحياةُ الآن لا تُساوي عندي شيئًا، أكبرُ آماليَ أنْ أعودَ لنفسي، أنْ أكونَ مع حبيبيَ آدمَ وأمّي، عائلتيَ الصغيرة، وكونيَ الكبير، لا أعلمُ عنهم شيئًا، مُنايَ الآنَ هو رؤيَتِهم لساعةٍ فقط، لم أكُن لأِطلُبَ أكثر.
آدمُ شبيهُ أبيَ الّذي يحملُ نبرةَ صوتهِ، ملامِحُهُ وحنانُه، وهذا ما جعلَني أهيمُ بهِ أكثرَ، كطِفلةٍ فقدَتْ وجودَ جنّةِ دُنياها وهي في التاسعةِ من عُمرِها، فعوّضَها اللهُ بنُسخةٍ تُشبهُها، يستحيلُ أنْ أُخاطرَ وألتقيَهِم، هم في أحشائي وروحي، داخلَ كلِّ ذرةٍ في جسدي، أمّي العظيمةُ التي جافَيتُها لأشهُرٍ، ستكونُ الآنَ أكثرَ راحةً في ذلكَ، ستكونُ مُطمئنّةً عليَّ أكثر، فهيَ مَن تقولُ دائمًا مَن كانَ عندَ الرحمن فلا خَوفٌ عليهِ ولا قلق.
آدم
أغلقتُ الدّفترَ وأجهشتُ بالبكاءِ، لا دموعاً ولا فلسفةً ولا الدُنيا بأكملِها، تُعزّيني في حواءَ، صرختُ بصوتٍ هزَّ أرجاءَ المنزل:
- يا ألله نوراً وسلاماً على قبرِها.
حبيبتي يا حواء أكلُّ تلكَ الفواجعِ كانتْ تحتشدُ داخلكِ، كلَّ هذي الآلامَ تعصفُ بكِ يا مؤنِسَتي بلا حرفٍ يُنطَق، يشهدُ الله أنكِ كنتِ الرّوحَ والرّيحانَ في أيّامي، السّنينَ التي قبلكِ لم تكُنْ إلّا استعداداً لمعجزةٍ كأنتِ.
الأطلالُ يا حواء، بتُّ الآن فقيراً دونكِ، إنساناً تافِهًا بلا أهدافٍ، إنساناً لا يعرفُ إلّا السّجائرَ وذِكراكِ، كُنتِ الحُبَّ الذي بحثتُ عنهُ عُمرًا، فأكرَمني اللهُ بلُقياكِ، وها أنا الآنَ، على قيدِ رائحتِكِ في الكتبِ والأوراق، على ذكراكِ على طيفكِ.
لعنةٌ سرقَتِ الحياةَ من بينِ أضلُعي، لا خيرَ في حياةٍ يا حبيبةَ الرّوحِ إن فيها لم تكُونِي".


إرسال تعليق

0 تعليقات