حسن فروح | أحب نفسي أكثر



كأيّ زواجٍ تقليديّ تزوّج خالد من رهام، فقد اختارتها أمّه لحسنِ خُلُقِها وخِلقتها، وقد وافق عليه أبوها بسبب وضعه الماديّ الجيّد، كان خالد قليلَ الصبر، دائمَ لانفجار بالغضب، وكانت رهام كثيرةَ الكلام، وتثرثر بكلّ شيءٍ.
كانا كثيرَي المشاكل، ودائماً ما تنتهي المشاكل بذهبها لبيت أهلها، لم يكن لدى أهلها كلامٌ سوى "صبري"، ولم يكن لدى أهله كلامٌ سوى "ستصبح أمًًّا وستعقل".
وبعد كل هذه المشاكل، وأثنائها أصبح لدى خالد ورهام طفل أسمياه "براء"، عاش براء في المشاكل منذ أول يوم له في الدنيا، كانت أول مشكلة يسمعها براء هي مشكلة من أجل تسميته، كبر براء، وفي كل عام يكبر فيه، تكبر المشاكل أكثر فأكثر؛ لتصل إلى الانفصال والعودة من أجل طفلهم الذي أصبح في السابعة من عمره، براء منطوٍ، دائمُ الانعزال، قليلُ الكلام، شديدُ العناد، نادرُ الابتسامة، كان أكثر سؤال يتردد على مسامعه كأيّ طفل من عمره "حبيبي من تحب أكثر ماما أو بابا؟"
كان براء يجيب بصمتٍ أخرسَ وحزنٍ مبتسم، وبعد وقت قصير حان وقت ذهاب براء إلى المدرسة، كان أول يوم في المدرسة صاخبًا مليئًا بالضحك والبكاء والضجة.
كان جميع الأطفال هكذا إلا براء، كان يحدّق في كل حركة شفاه تضحك فيها الأسنان، وكأنه لم يرى َأحد يضحك من قبل، كان هادئاً، شديدَ البرود، جلس بالمقعد الأول بجانب طفلة تشبه الأميرات الخياليات، نظرت إليه وقالت له: "ما اسمك؟"
فلم يجبها، بقي صامتًا، كأنّه لا يراها، ولا يسمعها!
نظرت إليه مرت أخرى وقالت بابتسامة تملأ وجهها الصبوح" أنا سمي صفا، وهذا أولُ يوم لي في المدرسة وأنت؟".
لم يجبها، ولم يكترث لسؤالها أصلاً.
كانت صفا اسم على مُسمًّى كما يُقال كانت تنضح بالنقاء، مفعمةً بالحياة، كان وجهها يفيض بالابتسامات. مضت أول حصةٍ، وكانت حصة التعارف، وبقي براء صامتًا طوال الحصة إلا في وقت جوابه، فقد جاوب على قدرِ السؤال، وبكل هدوء يعبث بالصمت:" اسمي براء"
حان وقت الذهاب إلى ساحة المدرسة، كان كل الأطفال يلعبون إلا براء، كان جالس في زاوية الساحة ينظر إليهم ويسأل نفسه هل هؤلاء أيضاً يعودون إلى البيت ليسمعوا صراخ أبيهم وعدم اكتراث أمهم؟، هل يعودون إلى البيت من أجل مشاهدة المشاكل؟، وهو ينظر رأى صفا كأنها فراشةٌ تقتحم الصمت والحزن، جاءت وجلست بجانبه، قالت له:" اسمك براء، لقد عرفت".
نظر إليها بشؤمِِ، وقال:" ماذا تريدين؟"، فأجابت بكل حماس:" أريد أن نلعب معاً"، فقال:"لا أريد أن ألعب".
نظرت إليه وقد رحل جزءٌ من ابتسامة وجهها: "إذن أريد أن أجلس بجانبك، أريد أن أسألك سؤالًا، ماذا تحب أن تفعل؟"
فلم يجب، فقالت:" سأسألك سؤالًا آخر، من تحب أكثر: أمك أم أبوك؟".
تحول برود براء إلى غضب، وقال بصوت يشبه الصراخ الهادئ:
" لا شأن لكِ"
فقالت له بكل عفوية، أنا أحبهما كثيراً، الأنثيين معاً، بابا وماما. نظر إليها باستهزاء، وقال:" بعفوية أنا أحب نفسي أكثر!".
وكان هذا أولَ جواب لسؤال بات الجواب عليه صامتًا طوال تلك السنوات، نظرت إليه باستغراب، وقالت:" أنا أحب نفسي أيضاً" وقالت لتغيّر مجرى الحديث، ولتعبث بالجو الأحمق الأسود: "لنذهب ونشتري الحلوى"
وكعادته لم يستجب، فذهبت وبقي جوابه يُصدر الأصداء في رأسه "أحب نفسي نعم أحب نفسي أكثر" كان جوابه يكبره بأعوام كثيرة كما يكبره شؤمه.
عادت صفا ومعها الحلوى، اقتسمت من قطعتها وقالت له:
"خذها، إنها لذيذة"
وكانت أول هدية قبلها براء في حياته من أحد، لم يأخذ من قبل مثلها، كانت مليئةً بالحب والحياة و الضحك والمرح، وبعد ساعة من الزمن حان موعد عودتهم إلى البيت، نظرت صفا إليه من داخل الحافلة بابتسامة، وقالت: "مع السلامة مع السلامة يا براء"، وكانت أول ابتسامة تخرج من قلب براء، لوّح بيده مودعاً لها، عاد براء إلى البيت وهو يفكر ما المشكلة الجديدة التي ستحدث، وكالعادة دخل البيت وكان صراخ أبيه يدوي في البيت، ووقفة أمه المعاندة، وعيناها المليئتان بالدموع تزيد البيت صخباً، والمشكلة هذه المرة كانت من أجل إحضاره من المدرسة، عاد وكأن شيئاً لم يكن، نظرت أمّه إليه بتذمّر ملأ وجهها، وقالت:" انظر لقد أخفت الولد"
رد والده بصوت ينفجر من الغضب:" وأنتِ الملاك الهابط من السماء"
لم يأبه براء، لقد اعتاد على هذا الجو القاتم، كان جواب براء يدوي في رأسه دائماً "أحب نفسي أكثر" لكنه لم يبح به لأحد إلا صفا، كان الجواب الأول والأخير لهذا السؤال، ولكنه كلما سُئل صمتَ عن الجواب، ولكن الجواب كان يصل لأخر لسانه لحد شفتيه ويرجع .
كان يذهب إلى المدرسة كل يوم ليعيش الحياة الملونة مع صفا، أصبح براء يتكلم ويشارك ويلعب ويبتسم ويضحك ولكن في المدرسة فقط وبوجود صفا بالتأكيد، صفا شمعة النور المعطرة أضاءت قلب براء المليء
بالظلمة، كان براء يعدّ الساعات اليوم؛ ليعود إلى المدرسة في اليوم التالي.
مرّ العام الدراسي كان أجمل عام في حياة براء، نجح براء وكان من المتفوقين، ونجحت صفا أيضاً، وكان لدى براء هم كبير، وهو العطلة، نظر إلى صفا وعيناه مليئتان بالحنين قبل الرحيل، وهي تنظر بابتسامة حزينة، وكأنها تقول" كلما اشتقت إليّ اضحك وستراني أمامك".
كان براء يعد الأيام ويسأل أمه كل يوم عن نهاية العطلة كان يريدها أن تنتهي في لمح ِالبصر، وفي غمضة عين، مرت فترة من الزمن وعادت المدرسة من جديد، ولكنَّ صفا لم تعد مع المدرسة، ذهبت صفا إلى السماء، ذهبت وهي تقطع الشارع بسبب سيارة قاتمة طائشة أخذت فراشة الألوان وشمعة الأنوار، أخذت صفا، ذهبت صفا وكأنّها ملاك نزل إلى الأرض ليقضي مهمةً ويعود بهدوء إلى السماء.
كان براء دائماً يسأل عن عودة صفا، منع أيّ أحد من الجلوس بجانبه كان يقول بلهجة واثقة "المقعد محجوز إنّه لصفا".
مرّ شهران ولم تأتِ، فسأل براء معلمته في العام الماضي بلهجة اشتياق" أين صفا؟"
امتلأت عينيها بالدموع كفكفتها وتظاهرت بعدم المبالاة، وقالت: "ذهبت صفا إلى السماء ولن تعود".
نظر إليها براء والدموع تذرف من عينيه كاللؤلؤ المنثور:" كيف ذهبت صفا إلى السماء؟" وقال بعتاب:" لمَ لم تأخذني معها؟"
أجابت المعلمة: أغمضت صفا عينيها، ولم تفتحهما أبداً فوجدت نفسها في السماء، صُدِم براء عاد إلى صمته
الأخرس وكأنّ الحياة قتلته على قيدها، وكأن شيئاً في ضلعه الأيسر قد كُسِر، أمضى أسبوعًا مريضاً وملقًى في فراشه، وكأن ذهاب صفا أخذ عافيته، ونصف جسده الهزيل.
عاد إلى المدرسة مرغماً صامتًا بائسا عاد وقد التزم الصمت وعقدة الحاجبي، التزم مكان صفا.
قال للمعلمة:" أريد أن تكتبي على يدي أحبّ نفسي أكثر" أجابت المعلمة، وهي تضحك:" كم أنت شقيٌّ وأنانيٌّ!" ولم تتردد، كتبتها على راحة يده.
نظر إلى الكلمات القاتمة، وامتلأت عينيه بالدموع، لقد تذكر صفا ولم يكفَّ عن البكاء حتى عودته إلى البيت، عاد إلى البيت وكالعادة مشكلة أخرى، ولكن هذه المرة كان رهان بأنّ براء يحب أحدهما أكثر من الأخر، نظرت أمه إليه بابتسامة ماكرةٍ، وقالت: "حبيبي" لمعت هذه الكلمة في ذهن براء فلا تُقَال له إلا من أجل ذاك السؤال، قالت: "حبيبي، من تحب أكثر أنا أم بابا؟"
أطبق يده بقوة وكأن جوابه سيخرج من يده وليس من لسانه، واكتفى بالصمت، فقالت:" اذهب واغسل يديك؛ لأْحَضّر لك الطعام"
دخل براء الحمّام والصراخ يتعالى في البيت، تعالت الصرخات "انظر إنه يحبني أكثر"..."لا إنه يحبني أكثر وسنرى عند من سيبقى بعد الطلاق"
أغلق باب الحمّام وضع يديه في أذنيه، وانفجر بركان من الدموع في عينيه، بكى، وبكى، وبكى، أغمض عينيه وهو يبكي فأحسّ براحة وسكينة، وحسّ بهدوء أبديّ، ولم يفتحهما مرة أخرى.
ذهب براء إلى فراشته الملونة، مات براء مكبوتاً، مخنوقاً من الداخل أكثر من الخارج.
وبعد شِجار دام أكثر من ساعة تذكران أنّ براء لم يخرج من الحمّام، ركضت أمه، وعلا النداء باسمه، فوجدته متكئًا على حائط الحمّام بوجهٍ أحمرَ مُزرق، وشفتين مليئتين بالأزرق المسوّد، حضناه هما الاثنان، تعالت صرخات البكاء والنواح، انتبهوا لإغلاق يده بقوة وفتحوها بلطف، فجوودوا فيها جواب السؤال الذي صمت عنه لسنوات
"أحبّ نفسي أكثر "

حسن فروح


إرسال تعليق

0 تعليقات