حنين طلاع | مدينتي



يتسلَّلُ إليَّ الصبحُ من كوةِ نافذتِي الصَّغيرةِ الَّتي تعتلِي رأسيَ المدفونَ في الفراشِ كَجذعِ شجرةٍ .. يجرُّني لأنهضَ متثاقلًا فاركًا عينيَّ المحفوفتينِ بهالاتِ التعبِ والسهادِ.. أرشُّ الماءَ على وجهي المضنىٰ بالشقاءِ والبؤسِ.. تتزحلقُ عقاربُ ساعتي وفقَ دارةٍ منتظمةٍ تستنزفُ طاقاتي في كلِّ جزءٍ منها.. أديرُ مقودَ سيارتي .. أجوسُ خلالَ طرقاتِ المدينةِ الَّتي تطفحُ بالنَّاسِ مِن مختلفِ الهيئاتِ والأحجامِ والعقلياتِ ..

"صباحُ الخيرِ سوريا " يردحُ صوتُ مذياعِ السَّيَّارةِ مخترقًا شقوقَ وأخاديدَ الشَّوارعِ .. نافذًا إلىٰ آذانِ بائعي الخبزِ المتكوِّرينَ بمحاذاةِ موقدِ النَّارِ يشحذونَ دفئًا شحيحًا .. "فايق يا هوى " تصدحُ حنجرةُ فيروز" لتركنَ عجلةَ السيارةِ أمامَ طابورِ الغازِ المستطيلِ الممتدِّ كأسلاكِ الهاتفِ من ناصيةِ الطَّريقِ إلىٰ مؤخِّرتهِ..

"تاري الدوا حبك وفتش عالدوا" أتساءلُ أيّ حبٍّ يمكنُ أن نعثرَ عليهِ بينَ أسطواناتِ الغازِ الَّتي لا زلنا نتكبَّدُ عناءَ تأمينها؟؟؟ أصلُ إلىٰ مكتبي بعدَ ربعِ ساعةٍ ونيف .. لأجدَ أوراقًا مكدَّسةً علىٰ منضدتي .. وطبقةَ غبارٍ .. والكثيرَ الكثيرَ منَ التساؤلاتِ الَّتي تقرصُ عقلي، ينسلُّ منَ البابِ "أبو محمد" بشكلٍ مباغتٍ واضعًا قدحًا منَ القهوةِ علىٰ تلكَ المنضدةِ ، مردِّدًا تحيَّتهُ الصَّباحيَّةَ ، واضعًا صينيَّةَ القهوةِ تحتَ إبطهِ ، أطيلُ النَّظرَ متمعِّنًا في ملابسهِ المهترئةِ ولحيتهِ الكثَّةِ وشعرهِ المكزبرِ ، وبسمتهِ البسيطةِ الَّتي تلجُّ من قمعِ القهرِ والفقرِ .. أنغمسُ منهمكًا في العملِ ولا أفرغُ منهُ حتىٰ حلولِ الظهيرةِ .. أعودُ أدراجي لأمرَّ علىٰ سوقِ الخضارِ أتزوَّدُ منهُ.. أمدُّ يدي إلىٰ جيبي لأخرجَ أوراقًا نقديَّةً لأدفعَ ثمنَ كيلو البطاطا .. توردُ ابتسامةُ " أبو محمد" مرًّة أخرىٰ وهو يتناولُهَا بصدرٍ رحبٍ مردِّدًا تحيَّةَ الظَّهيرةِ..

"في يوم وليلة دقنا حلاوة الحب" يهمسُ صوتُ وردة مطربًا.. أتساءلُ وأنا أتمشَّىٰ بالقربِ من مقهىً تنتصبُ أمامَ بوَّابتهِ طفلةٌ بمظهرٍ رثٍّ تبيعُ العلكةَ ، أيُّ حبٍّ يكمنُ في عينيها الذَّابلتينِ الهائمتينِ بالعجزِ.؟!.

أرفعُ بصري نحوَ السَّماءِ المكلَّلةِ بالنُّجومِ .. أنقِّلُ أبصاري في الأرجاءِ أحاولُ أن أستلَّ الحبَّ من باطنِ تلكَ المدينةِ المتلبِّدةِ بالبؤسِ.. أحاولُ أن أستنب الحب من شوراعها المتضامَّةِ .. أحاولُ أن أمتصَّ الحبَّ من جدرانها المبتوِّرةِ .. و نوافذها المعطوبةِ.. 


حنين طلاع

إرسال تعليق

1 تعليقات