سارة بوغليضي | لعنة العقرب



مَرَّت خمسةُ أسابيعٍ على مقتل جده، ولا زال يراوده نفس الحلم، فيستفيق منه مذعوراً مخطوفاً، قام ليغسُل وجهه نظر إلى المرآة التي أمامه، فرأى وجها ذابلا مخطوفا ومصفراً وهالات سوداء قاتمة.
تذكرَ أيامُه وكيف كان الجميعُ يتحدثُ عن وسامته، عيونه الجميلة الواسعة، شعره الأسود البراق، قوامه الرياضي، شخصيته القوية المهيبة، وحكمته العظيمة التي يبهر بها كلَّ من تحدث إليه رغم هدوئه وتفهمه إلا أن غضبه لعنة فرعونية، كذلك كان يدعوه زملاءه في جامعة الآثار.
كان آدم دكتوراً وعالم آثار، فقد ورث ذلك عن أبيه، وجده، وجد جده سلالة نادرة فهي أثرية بامتياز.
لازال يُمعِن النظر إلى المرآة متفحصاً وجهه بدأ يحدِّقُ متفحّصاً وشمَ العقرب الموجود على الجهة اليسرى من صدره، الوشم الذي لا يعرف قصته إلى الآن، حاول الاستفسارُ مراتً عديدة من جده، خاصة وأنّه هو وأبوه وجده يحملون نفس الوشم، فقط يكتفي بقول إنّه رمز للعائلة وسيزول قريباً.
زادتْ الأمور غرابة، عندما أهداهُ جده في عيد ميلاده الثلاثين، قلادة سوداء اللون على شكلِ عقربٍ، تحمل حجرين أحمرين براقين يُشكلان العينين.


قرر أن ينزل إلى مكتبِ جده، علّه يجد ما يشفي غليله ويساعده في إيقاف تساؤلاته، فلم يجرأ يوماً أن يتجسس على جده وهو حي.
فتح أدراج المكتب فوجد مذكرةً لجده، جلس على مقعده فانتابته رعشة خفيفة، أسقطت المذكرة من يده فقد حَنَّ إليه، وحَنَّ إلى الحديث معه، والمخطوطات التي كانا يحلان رموزها مع بعض، فقد كان آدم بارعاً في قراءةِ الحروف الهيروغليفية. اغرورقَت عيناه شوقاً، وتمنى لو أن جده موجود ليخبره ماذا سيفعل في محنة كهذه؟
انحنى ليحملَ المذكرة التي سقطت منهُ تحت المكتب، فإذا به يجد مقبضاً شكله كشكل قلادته عقرب ذو عيون بلورية حمراء، وبدون أي تفكير أنزل المقبض للأسفل، اهتزت الأرض من تحت قدميه، وتحرك المكتب في حركة شبه دائرية إلى جهة اليمين، وفُتح تحت قدميه باب يقود إلى نفق مظلم التصق آدم بالكرسي مذهولاً ومذعوراً تمالكَ نفسه، وقرر أن ينزل الدرج حَذِراً، وسط ظلام دامس، إلى أن وصل للقاعِ اهتزَ المكان مرة أخرى ومُلِأَ المَمَر بغبار الكبريت ذو الرائحة القوية بدأ آدم السعال وعيناه تدمعان التصق بأحدِ الجدران، وجلس أرضاً وحاول أن يُخبئ رأسه بين ركبتيه، وهو مغمض عينيه والسعال في ازدياد.
توقف الاهتزازُ و الغبارُ وتلاشى كأنه لم يكن، فَأُضِيئَت العتمة من حوله بواسطة شموع كانت موجودة على الجدران. حاول الوقوف بعد موجة الاختناق التي كادت أن تصيبه بالإغماء، تفقَّد الباب الذي دخل منه، فوجده مغلقاً.
أكمل مسيره في السرداب إلى أن وجد بابا حديدياً ضخماً، يتوسطَه العقرب ذو العيون الحمراء.
-ماذا؟! ألن يبتعد عني هذا الرمز اللعين؟
فكر في أنه لا طريق للخروج؛ فقد أُغلق الباب الذي دخل منه، وعليه إكمال الطريق علّه يجد مخرجا.
اقترب من الباب ودفعه بكل قوته لكنه لا يُفتح.
تفقده من جميع الجوانب علَّه يوجد زر لفتحه، لكنه لم يجد غير قالبٍ لرمز العقرب فارغ من الداخل على الجدار، أحنى ظهره وأمسك ركبه ليفكر في طريق للخروج، ويلتقط أنفاسه فلا زالَ يلهث ولم يستقر تنفسه بعد. تدلت من عنقه القلادة التي أعطاه جده إياها، خطر بباله أن تكون هي المفتاح فقام مسرعاً ووضعها على الرمز الموجود في الجدار فشعَت عينا القلادة، و فُتح الباب فقفز فرحاً، لكن لم يَطُل فرحه؛ حتى باغته سهم أسقطه أرضاً.
توالت السهام وآدم منبطحٌ أرضاً وذراعه اليمنى مصابة.
اقتلع آدم السهم العالق بذراعه، وقد أطلق صرخة مدوية من شدة الألم؛ أزال الشال من على عنقه ولفه على ذراعه ليوقف النزيف.
قام متعثراً وحذراً خائفاً من أيّ سهم طائش آخر عبر الممر، وهو يسير إلى جانب الحائط إلى أن وصلَ إلى باب نصف مفتوح، لغرفة كبيرة مليئةٍ بالآثار والتماثيل، تنبعثُ منها رائحة الجثث المحنطة، لفتَ انتباهه طاولة مستديرة بها خنجر أسود وعلى رأس مقبضه الرمز الملعون العقرب ذو العيون الحمراء.
بجانبه مخطوطة قديمة مكتوبة بالحروف الهيروغليفية، وأيضا أوراق مكتوب عليها بخط جده.
جلس يقرأ الأوراق، ويحلل رموز المخطوطة فاكتشف أن هناك مومياء تدعى "بالمومياء العقرب". تتخدر بمجرد النظر إلى عيونها وتتحكم بك وبتصرفاتك.


كان جده أول من اكتشف المومياء، فأحاطت بلعنتها عليه واستولت على عقله، وأرادت أن تأخذه معها إلى عالمها لكي تستولي على البشر.
إذنْ هي من لعبت بدماغه، وبنى سرداباً تحت مكتبه ليُمَكِّنها من الخروج متى شاءتْ
-أيعقل هذا؟! كيف لي أن أصدق شيئا كهذا؟! لي أكثر من عشرةِ سنوات في مجال الآثار ولم أرَ شيئاً يشبه هذا.
كيف لمومياء محنطة أن تستيقظ وتلعن أيضا؟ كيف لجثة ميتة عفنة أن تتحكم بالعقل البشري؟ هذا حقا لا يعقل! كيف بنى جدي هذا السرداب، ولم يعلم به أحد؟
أسئلةٌ كثيرة تدور برأسي، وعلي أن أجدُ جواباً لها لا يجب علي التوقف، فقد بدأت بهذه المهزلة وعلي أن أنهيها، سأبحث عن ما يوقف هذه اللعنة والمومياء أيضاً، لكن أين المومياء؟
علي أن أجدها، أين احتفظ بها جدي يا ترى؟ أم أنّها لازالت في موقعها!
انغمس وهو يُتِم قراءة المخطوطة عله يجد ما يوقف به المومياء.
صرخ قائلاً: ها هي إذاً، عليّ أن أطعن قلب المومياء بهذا الخنجر لتموت وتُبْطَل اللعنة
ولكن لِمَ لَمْ يفعل جدي ذلك؟ والأهم أين هي المومياء، أين خبأها جدي، وهل لا تزال في موقعها؟!
أشعر بخوف تُغَلِّفه الحماسة، فأنا أريد حقاً أن أُنهي هذا، أريد لروح جدي أن ترتاح وترقدُ في سلام، عليّ أن أتشجع وأقرر عدم التراجع مهما كان الثمن.


عليّ أن أحارب، أواجِه، وأصطدم بكامل قوتي فإما موتي أو موتُها. فالموت في سبيل من وما نحبّ حياة أخرى.
أمسك الخنجر ووضعه في غمده وعلقه على عنقه مع القلادة.
في خضم تساؤلاته كانت صرخته قد وصلت للمومياء المسجونة بأحد الغرف المجاورة..
ابتسمت بخبث تلتها ضحكات متعالية شريرة.
-إني أشتم رائحة دماء طازجة في الأرجاء، ضحيتي التالية قد أتت.
سمع آدم همهمات قادمة من الغرفة المجاورة، أحس بالخوف لوهلة، لكنّه تقدم نحو ذاك الباب الحديدي الصدأ المليء بالأقفال، وجد مجموعة من المفاتيح معلقة بالجدار بجانب الباب.
بدأ بفتحِ الأقفال شيئاً فشيئاً وبِحذر، سمع صوتاً رقيقاً ناعماً يسأله آدم هل أنت هنا؟
صُعق آدم هل يمكن أن تكون هي؟ وكيف لها أن تعلم اسمي؟! توقف للحظة وسأل: من أين لكِ أن تعرفي اسمي؟
مِن رائحة دمائك، قوي كجدك لم توقفك إصابة ذراعك، وأيضاً لي أن لا أعرف اسم حَفيدِ المُحَرِّر الغالي، وابن الذي وهبني حياته.
تجمد آدم في مكانه. تأكد أنها هي، وتذكر أنَّ أباه توفي عندما كان صغيراً، وجثته مختفية إلى الآن.
-كيف؟ وهبكِ حياته؟!


-نعم، لقد وهبني حياته، وجدني جدك في أحد الليالي المقمرة، فأخذني إلى مختبرهِ فرحاً بي، نادى والدُك ليرى إنجازه. فكان أبوك أول فريسة لي سحبت منه روحه، فلم أستطع فعل ذلك لجدك فقد كان هو محرري، ولا يمكنني إيذاءه.
-لكنّكِ تحكمتي به، وسيطرتي على عقله، وحَكمته في أعمالك الشريرة.
-أنا لم أفعل شيئاً، كان جدك يحب حديثه معي كان يناقشني في جميع المواضيع الفلسفية والعلمية والأدبية، كان يسأل عن جميع الثقافات وأجيبه.
كنتُ أعطيه أيضاً مواقع مومياوات أخرى، ليكتشفها أيضاً ويزيدُ إثراء الآثار لديه.
-لا، كاذبةٌ فقد كنت تجمعين جيشاً من مومياوات، ليساعدُكِ على السيطرة علينا.
ابتسمتْ بخبثٍ: تشبه جدك مرة أخرى في ذكائه، لكنّني سيطرتُ عليه، حتى قُتِل وأتيت أنت لتكمل ما بدأه.
أغمض آدم عينيه وبلع ريقه وأخذ نفسا عميقا، وفتح الباب وهو يقول في قرارة نفسه: لن أفتح عيني ولن أنظر إليها، خاصة إلى عينيّها.
دفع الباب ودخل قائلا:
-يجب أن أقتُلكِ وأريح روح جدي وأبي.
-أنا لم أقتل جدك بل هو الذي قتل نفسه، حذرته مراراً بأن لا يذهب إلى أي مومياء دون أن يرتدي قلادته، لكنّه فضلك أنت على نفسه، أعطاك القلادة ليحميك فقد حدثته مراراً أن هناك مومياء ستتحكم بك، فخاف عليكَ من الأذى وأعطاك إياها، وعند ذهابه في رحلته المعتادة للبحث عن مومياء أخرى قتله حارس أحد مومياوات.
-قال آدم بحرقةٍ: حقنه بمزيج الخل المضاف إلى مسحوق الرخام، وهو مادة سامة كان يستعملها للفراعنة للإعدام، فالرخام مركب من كربونات الكالسيوم، وهذا يتأثر بحمض الخليك الموجود في الخل ليصبح حمض الكربونيك.
-صحيح، يكون المزيج موجوداً في أظافر الحراس يخدشون به أي متطفل على المومياء فيلقى حتفه.
- وجثة أبي المختفية أيضا أين هي؟
-عندما يَهَبُ أحدهم روحه لمومياء، فإن جسده يحترق حتى يتحول إلى رماد تحمله الرياح إلى رمال الصحراء فيُنسى.
عصر آدم قبضة يده تَحسُّراً على فراق جده وأبيه.
-فقط انظر إليّ وسآخذك إليه.
أدار آدم ظهر لها ونظر نحو الباب فرأى مرآة صعق عندما نظر إليها، ظهرت المومياء التي كان يتحاشى النظر إليها.
كانت عكس ما خُيِّلَ له، ظن أنه سيرى جثة محنطة، ذات وجه متآكل، ولون أصفر يميل للاخضرار، لكنّه رآها جميلة وجهها مضيء كالبدر، يغطيها شعر ناعم بني طويل، مكبلة من يديها وقدميها داخل تابوتها الواقف.
-كيف لمومياء أن تكون بهذا الجمال!
استذكر شيئاً فقال مذعوراً:
-أنتِ... أنتِ إذن سبب كابوسي، تأتين لي بهيأةِ فتاةٍ بريئة جميلة لطيفة تدعى حواء تناقشينني عن المومياءات والآثار والتاريخ، لينتهي حديثك بتحولك لمومياء وقتلي خنقا.
-نعم كان اسمي حواء، وقد كان ذلك قبل أن أتحول إلى مومياء ملعونة، أما الآن فأنا العقرب.
-آدم، لقد أعياني الوقوف هنا لعدة سنوات، هل يمكنُك مساعدتي وفك هذه السلاسل؟
-لا تُغيري الموضوع، لن تستطيعي الاستيلاء عليّ.
تدارك آدم كلامه، وتذكر أنَه عليه ألا ينظر في عينيها.
-لا تخف عليك النظر إلى عيناي مباشرة، لا تأثير للمرآة عليك.
قال متحدياً: إذن لن تنظري إلى عيناي ما دمت حياً..
أغضب الأمر المومياء ففتحت فمها وصرختْ بشدةٍ خرجت مع صرختها صراصير سود ملأتِ المكان. أحنى آدم رأسه وخبأه بين ذراعيه متفادياً الصراصير.
ضحك مستفزاً: صراصير هذا كل ما لديك؟ أين العقارب وسُمِّيَتُها القاتلة؟ أم أنَّكِ تحملين فقط اسمها.
-فُكّ أغلالي وسترى العقرب، وقوتها، سترى قوة المومياء التي لم تتوقعها.
-لو كنتِ ذات قوة كما تدعين، لاستطعتِ الخروج من هنا، ولفككتِ أغلالك بنفسك.
-جمدني جدك بلعنة قديمة، لن تُفَكَّ إلى بعد أن يَفتح بشري غيره أصفادي.
-هُراء، كيف له أن يجمدكِ وأنتِ تتحكمين به؟
-فعل ذلك قبل أن أتحكم به، قبل أن أستعيد روحي، بعد أن أخذت روح والدك مباشرة، وربطني بهذه السلاسل اللعينة.
-جمَّدك جدي، وأنا سأقتلك لأتخلصُ من شركِ.
-لازالت عيونك مغلقة، ألن تنظرَ إليّ؟ لن تصدقني وأنت لا تراني.
أعطاها ظهره ونظر إلى المرآة.
-لعنني جدك بتجميدي، فلعنته بأن تكون سلالته كلها خدماَ لي.
-ليس بعد الآن.
أخذ آدم يفكر كيف سيقتلها.
-الأمر ليس صعباً، هي مكبلة سأقترب منها وأطعنها مباشرة، لكنّ عليّ أن أحدد مكان قلبها أولاً فعيناي مغمضة ويدي مصابة، ولا مجال للخطأ.
أخذ نفساً عميقاً، نظر جيداً إلى المرآة ليحدد خطواته، أغمض عينيه وذهب مسرعاً متجهاً نحو قلبها.
فإذا بذراع قوية خارجة من فم المومياء، تمسكه من عنقه وتلصقه بالجدار.
صرخ آدم من قوة الضربة، ومن ألم يده.
-حاول جدك كثيراً التخلص مني ولم يستطع.


ظلت فقط ثلاث مومياءات متواجدة بمكان واحد، عليكَ الذهاب وتحريرها ليكتمل العدد، فقط افتح عينيك وسينتهي كابوسك.
-قال آدم متألماً مختنقاً لن يكون لك ذلك.
صرخت مرة أخرى، فأتت سحابة غربان تنقر رأسه ليفتح عينيه.
قال بأعلى صوته: كفى، سأفتح عيناي ولكن أوقفي هذا، ودعيني أقف على قدماي.
-ضحكتِ المومياء عالياً: أنتَ الآن لي وفي صفي ولن يهزمنا بعد هذا أحد.
اقترب آدم من المومياء، وهي في قمة فرحها وضحكها.
فباغتها بطعنة ارتج لها المكان، فسمعَ صرخةً قوية مزعجة تشبهُ نعيق الغربان، تلاها مباشرة صمت مطبق هدَّأ المكان.
أحس آدم بألم في صدره كأنّ أحداً يقتلعه من مكانه، صرخ صرخاتً متعالية من شدة الألم.
فتح عينيه تفقد التابوت، فلم يجد سوى رمادٍ ملقى على الأرض، اتجه إلى المرآة تفقد الوشم فلم يجده.
لقد أُبْطِلَت اللعنة، قُتِلَت المومياء، و زال الشر.


فلترقد روحكما يا جدي ويا أبي بسلام.


سارة بوغليضي


إرسال تعليق

0 تعليقات