أدب الرحلة | عقربات
في اليوم الأول من نيسان للعام التاسع عشر بعد الألفين، أنطلقُ ونفسي، نجول أطراف المكان الذي لطالما كانَ استكشافه حلماً بالنسبة لي، حتى أصبحَ سجناً في كُلِ يومٍ أدعو الله أن يخرجني منه، وقد حان الأن وقت أن ننفض غبار الخيال ونسافر قليلاً بجمال الطبيعة، أن نشكر الأرض على حُسن الضيافة وطِيبَ الاستقبال، بعد أن أصبح الموت يعزف ألحانه بين الفينة والأخرى، بَعد أن رُحلنّا إليها.
"عقربات"
كلمةٌ ممزوجة بين عبق الريف، وجمال الطبيعة، بين خيرة سُكانها، وحسن أخلاقهم.
هيّ قريةٌ تَتَربع على عروش الجمال عروسُ الطبيعة، مُحاطة بِجِبال يتراصون لحمايتها وصد الريح عنها، فيها الوديان والسهول والأشجار من كل الأصناف.
هيّ قريةً في ريف إدلب الشمالي، حيث السماء تُعانق جبالها لتُمزج رائحة الصباح بعبق الزهور لِيُعلن صوت العصافير ابتداء الصباح،
بُنيت على جبلٍ مُعبد تحاوطه الجبال من كُل جانب، لها مزيجٌ مُختلف عن غيرها بأشجار الزيتون التي تشكل حزامًا أخضرًا حولها.
تَدخل من جانبها الشمالي الغربي لترى سور الزيتون يحيط بها، لتَصللَ للجامع الذي ّ بُني في الأعوام الأخيرة للحفاظ على صلاةِ الناس، ثُم تُكمل والأبنية من حَولك تعلو و تصغر، ستجد بعد ذلك مَشفى تم تجهيزه لاستقبال المرضى والمصابين، تَابع سيرك فالدرب لم ينتهي، هنا سترى أمامك مَسجدُ القرية الكبير، وشيخهُ حفظه الله وأطال عمره، حيث أصبح فصلاً من فصول القرية وأحد أهم أركانها، بعد أن تتخطى المسجد ستصل إلى المدرسةً التي بُنيت على قدر الحاجة، الألوان تُزين جُدرانها وأغصان الزيتونٌ و زهور اللوزٌ تُجمل مظهرها، و الآن ستشاهد مسجداً آخر يُعمر لاحتواء الحشود الغفيرة للمصلين، ثُم تُكمل حتى تَصل لنهايتها تَنظُرُ خلفك لتجد البيوت تشكل نغمةً موسيقية تُعزفُ على ناييِن.
هل طرقت الباب؟
اطرقه وادخل سَتجد أحسن الضيافة وأكرم الناس تفتح أبواب بيوتها التي لم تُغلق لسبع سنوات على مدار الحرب، أتحسبها لن تُحسن ضيافتك؟!
يمتاز سُكانها بالخُلق العظيم والنسب الكريم والأصالة والنخوة، حيث ينقسم الناس ثلاثة أصناف: قُسمٌ هم الأصل والأساس، كانوا قبل الحرب يسكنون بها ومهنتهم الزراعة والحصاد ويشتهرون بجودة زيتونهم ورمانهم والعديد من الفاكهة الأخرى، وقسمٌ هُم من أبنائها انتقلوا إليها بسبب الحرب، وشح الوضع، وفقر الحال، ليعملوا في مشاريعٍ عديدة ضمنها أو خارجها، وقسمٌ قَست الحياة عليه ودارت الدنيا بهِ في شرقٍ وغربٍ حتى اقتنى بيتاً فبها وأصبح من أهلها وناسها.
أما بُنيانها فمنها القديمة ذاتَ طابعٍ ريفي تقليدي جميل، ومنها الحديثة ذات الطوابق.
هل ترى؟ هُناك أعلى التلة المُقابلة لعينكَ، حيث الخضار يكسو الأرض وأشجار السرو تُحَوطها هُناك ستجد خيرة الناس وأفضلهم، الشابُ قبل العجوز وأغلبهم عددًا هُمّ تحتَ التُراب ينتظرون قيام الساعة..
لا تبتعد الطرفُ الأخر، هُناك!
سترى مُخيمٌ يحمل في طياته شتى أنواع العذابِ والأسى جوعٌ وبردٌ، خوفٌ وحزنٌ، لكن رغم كل ما عانه القاطنين بهِ المُهجرين قسرًا مازالت بسمة الأطفال مكانها رُغم صرخات الألم التي تكاد تَثقب أذاننا، حيث الأحجار تسندُ بعضها، لتحمل في جوفها خوف الأطفال، ودموع اليتامى، وصرخات الثكالى، تحميهم من البرد، والحَرّ لا تُبعد، فالمشهد لم يكتمل مازال الأمل نور الدرب، والحب شعلته الأطفال تتعلم، والناسُ تصلي، العُمال تعمل دون استسلام للواقع.
نعم يا سيدي.
هُنا إدلب، هُنا عقربات.
بقلم: رامي دعبول
في اليوم الأول من نيسان للعام التاسع عشر بعد الألفين، أنطلقُ ونفسي، نجول أطراف المكان الذي لطالما كانَ استكشافه حلماً بالنسبة لي، حتى أصبحَ سجناً في كُلِ يومٍ أدعو الله أن يخرجني منه، وقد حان الأن وقت أن ننفض غبار الخيال ونسافر قليلاً بجمال الطبيعة، أن نشكر الأرض على حُسن الضيافة وطِيبَ الاستقبال، بعد أن أصبح الموت يعزف ألحانه بين الفينة والأخرى، بَعد أن رُحلنّا إليها.
"عقربات"
كلمةٌ ممزوجة بين عبق الريف، وجمال الطبيعة، بين خيرة سُكانها، وحسن أخلاقهم.
هيّ قريةٌ تَتَربع على عروش الجمال عروسُ الطبيعة، مُحاطة بِجِبال يتراصون لحمايتها وصد الريح عنها، فيها الوديان والسهول والأشجار من كل الأصناف.
هيّ قريةً في ريف إدلب الشمالي، حيث السماء تُعانق جبالها لتُمزج رائحة الصباح بعبق الزهور لِيُعلن صوت العصافير ابتداء الصباح،
بُنيت على جبلٍ مُعبد تحاوطه الجبال من كُل جانب، لها مزيجٌ مُختلف عن غيرها بأشجار الزيتون التي تشكل حزامًا أخضرًا حولها.
تَدخل من جانبها الشمالي الغربي لترى سور الزيتون يحيط بها، لتَصللَ للجامع الذي ّ بُني في الأعوام الأخيرة للحفاظ على صلاةِ الناس، ثُم تُكمل والأبنية من حَولك تعلو و تصغر، ستجد بعد ذلك مَشفى تم تجهيزه لاستقبال المرضى والمصابين، تَابع سيرك فالدرب لم ينتهي، هنا سترى أمامك مَسجدُ القرية الكبير، وشيخهُ حفظه الله وأطال عمره، حيث أصبح فصلاً من فصول القرية وأحد أهم أركانها، بعد أن تتخطى المسجد ستصل إلى المدرسةً التي بُنيت على قدر الحاجة، الألوان تُزين جُدرانها وأغصان الزيتونٌ و زهور اللوزٌ تُجمل مظهرها، و الآن ستشاهد مسجداً آخر يُعمر لاحتواء الحشود الغفيرة للمصلين، ثُم تُكمل حتى تَصل لنهايتها تَنظُرُ خلفك لتجد البيوت تشكل نغمةً موسيقية تُعزفُ على ناييِن.
هل طرقت الباب؟
اطرقه وادخل سَتجد أحسن الضيافة وأكرم الناس تفتح أبواب بيوتها التي لم تُغلق لسبع سنوات على مدار الحرب، أتحسبها لن تُحسن ضيافتك؟!
يمتاز سُكانها بالخُلق العظيم والنسب الكريم والأصالة والنخوة، حيث ينقسم الناس ثلاثة أصناف: قُسمٌ هم الأصل والأساس، كانوا قبل الحرب يسكنون بها ومهنتهم الزراعة والحصاد ويشتهرون بجودة زيتونهم ورمانهم والعديد من الفاكهة الأخرى، وقسمٌ هُم من أبنائها انتقلوا إليها بسبب الحرب، وشح الوضع، وفقر الحال، ليعملوا في مشاريعٍ عديدة ضمنها أو خارجها، وقسمٌ قَست الحياة عليه ودارت الدنيا بهِ في شرقٍ وغربٍ حتى اقتنى بيتاً فبها وأصبح من أهلها وناسها.
أما بُنيانها فمنها القديمة ذاتَ طابعٍ ريفي تقليدي جميل، ومنها الحديثة ذات الطوابق.
هل ترى؟ هُناك أعلى التلة المُقابلة لعينكَ، حيث الخضار يكسو الأرض وأشجار السرو تُحَوطها هُناك ستجد خيرة الناس وأفضلهم، الشابُ قبل العجوز وأغلبهم عددًا هُمّ تحتَ التُراب ينتظرون قيام الساعة..
لا تبتعد الطرفُ الأخر، هُناك!
سترى مُخيمٌ يحمل في طياته شتى أنواع العذابِ والأسى جوعٌ وبردٌ، خوفٌ وحزنٌ، لكن رغم كل ما عانه القاطنين بهِ المُهجرين قسرًا مازالت بسمة الأطفال مكانها رُغم صرخات الألم التي تكاد تَثقب أذاننا، حيث الأحجار تسندُ بعضها، لتحمل في جوفها خوف الأطفال، ودموع اليتامى، وصرخات الثكالى، تحميهم من البرد، والحَرّ لا تُبعد، فالمشهد لم يكتمل مازال الأمل نور الدرب، والحب شعلته الأطفال تتعلم، والناسُ تصلي، العُمال تعمل دون استسلام للواقع.
نعم يا سيدي.
هُنا إدلب، هُنا عقربات.
بقلم: رامي دعبول
تصوير: سامر دعبول
مجلة أزرق - العدد الثامن
أدب الرحلة



4 تعليقات
رائع
ردحذفجميل جدا
ردحذفذكر أبسط الأشياء عن القرية مع وصفها بشكل دقيق
ردحذفزاد من جمال النص
كتبت فأبدعت رائع جدا
نص أكثر من رائع
ردحذفدمتم بها سالمين وأعادنا الله لبلادنا والسلام يملأ كل مكان