" آية نايف إدلبي "
"من ظلم الحرب ومعاناة القهر تولد أقدار الحب
آدم وحواء في ضاحية بيروت"
في مدينة بيروت، تعج الطرقات وتسير الحياة بشكلٍ هادئ، حيث لا ضجيجَ حرب ولا قتالٍ بين المذاهب، كل شيء على ما يُرَام، بعدما نالت الصراعات من البلد شتّى الخيرات، وهدَّمت الكثير من الأشياء، بعد ذلك استقرت الحياة وبدأت الحياة تسيرُ بلطف وحب وبأسُ نظام الحكم العادل، وأصبحت الناس تعيش وتتعايش مع الواقع كيفما تُريد، فمنهم من سكن الجبال، ومنهم من بنى لنفسه بيتاً في الضواحي، ومنهم من استقرَّ بالمدينة.
وكان هناك الرجل الحكيم آدم، ضابطاً في الجيش الجديد، آدم الذي يتحلى بفراسته وبصيرته العميقة، آدم قوي الشكيمة، ذو المنكبين العريضتين.
استقرَّ عمله في ضواحي بيروت، مما جعله يسكن هناك، وهناك كان يخرج بدورياته صباحاً ومساءً ،وبين الصبح والمساء يقضي أوقاته في مكتب الشؤون الإدارية للقسم، مما شكَّل عليه ضغطاً في حياته العملية، ومع ذلك لم يتذمر وكان هادئاً مهاباً ومحترمًا، فيطل على القسم بهيبته دون كلل، والجميع يهاب غضبه ، وكيف لا يهابوه وهو كالبركان إن غضب، ولا يملك من دنياه إلا سبيله فيها من كدٍّ وتعب، فقد توفيّت عائلته بالقصف الهمجي أثناء الحروب ولم يتزوج بعد ،وهكذا اعتاد الجدِّية في العمل وفي الحياة أيضاً، كان جدِّيٌ فيها رغم هدوءه التامّ، وقد امتاز عن زملائه بصفاتٍ جميلة تشفع له عند كل حسناء حتى تغرَق في حبه (قوته، وشعره الأسود الذي يُكَحِل بياض وجهه، وعينيه العميقتين) ومع ذلك لم يقع في حب أي فتاة بعد، فقط أحب العمل ، وتجند بالجيش حتى نال مرتبة الضابط، واستلم إدارة قسم الضواحي في المدينة.
مع مرور الأيَّام بعدما استقرت معيشته أصبح يرتاد الجبل أسبوعياً في يوم العطلة حتى يقضي فيه عطلته ويروّح عن نفسه، وكان بالجبل يجلس عند كهفٍ ناءٍ بآخر معاقل الصخور، فيتفكر ويرتّب أفكاره، وكان يسبح في نهر يسير على طرف الجبل من جهةِ اليمين فيريح أتعاب جسده بالسباحة.
وهكذا يمضي العطلة ما بين السباحة وجلسة التفكير والتأمل على باب الكهف، إلى أن يحين الغروب فيعود إلى بيته في الضاحية؛ ليستعدّ لدوامه من جديد.
ذات مرة خرجَ باكِرَاً في يوم العطلة ليقصد الجبل، فالجو ربيع، والأرض مفروشةٌ بألوانها الزاهية؛ ولذلك أعدَّ ما يحتاجه للنزهة وانطلق.
وهناك في الجبل بعدما وصل ورتب أموره، بدأ يجهز عدّة إعداد الشايّ؛ ليشربه على الربوع هناك، وأخذ يُكسِّر عيداناً من أغصان البلوط بانهماك، وهو في هذه الحال سمع صوتاً شجياً أشبه بالغناء، فترك ما بين يديه وتتبّع الصوت وبكل خطوة يخطوها يتّضح الصوت أكثر حتى أدركه، ويا للعجب! إنه صوت لفتاة، اقترب من المكان دون أن يُشعِرَها بشيء ثم توقف يراقبها ويتأمل.
فتاةٌ وَقِرَة تُنشِد بصوتٍ رقيق وبحزن يتتالى في كلماتها.
اقترب أكثر وتسلق شجرةً من أشجار القطب التي كانت تقابل مكان الفتاة جيداً، واختبأ بين أغصانها واستكنّ؛ ليراقبها بصمت.
وهي تتمايل كالهدهد من زهرةٍ إلى أُخرى، وتقتطف الأزهار وتُجَمِعَها في سلةٍ تُمسكها بيدها وتُنشد:
يا راقداً على ثنايا أوجاع قلبي أفق، غاب الإحساس واندثرت الآلام.
يا ساهراً على جراح قلبي استمع من تغريداتِ روحي، شجناً وألحانُ
يامن يقتاتُ من حزني تمهل، أشرقت شمسنا واحترقَ الظلامُ.
هي تنشدُ وتتمايل، وهو يُدهَش لصوتها الندّي، وحركاتها الخفيفة، ويشتد إليها قلبه، وأكثر ما يشده إليها بسمتها الحانية التي تشبه بسمة الأم الحنون، والعاشق الولهان
أراد أن يُشعِرَها بوجوده فتوقف عندما اقتربت من الشجرة الذي هو عليها، فاقتربت وأفرغت حمولة سلتها من الورود تحت ظل الشجرة.
وعادت تمشي الهوينى بظلٍّ خفيف وبغَضِّ الطرف، وتتمايل خصلة شعرها البنية مع تراقصات الريح على كتفيها، وتتنقل من زهرة إلى أخرى مرةً ثانية
من خلال المُراقبة، اتضح له أنها تعرف الجبل جيداً وتعيش رغدها فيه، ولكنه تساءل: كيف هذا؟ وهل يوجد هنا سكان!
اقتطعت عليه تساؤلاته بإقبالها نحوه فانبهر لحسنها، وكانت كلما تقبل ينبهر، وكلما تدبر يسهد، وظلَّ الحال هكذا حتى أنهت القطاف وجلست تحت الشجرة أمام عينيه، ثم شرعت تصنع تاجاً من الورود التي اقتطفتها، وهو سعد لذلك وأخذ يردد: التيجان الوردية لا تليقُ إلا بعينيكِ السوداوين، ولجمال وجهك البشوش صاحب البشرة البيضاء.
ولم يعد يصبر على المراقبة فقد مضى ما يُقارب ساعتين دون أن يشعر، أراد تكليمها والاقتراب منها، فقلبه مفعم بإحساسه الرهيف، أحسَّ أنه في عالمٍ آخر، عالم خالٍ من العمل والناس ومن كل شيء، لكنه مليءٌ بالحب والسكينة، وكأنه ولد لتوّه في هذه الحياة.
فاشتد عليه تفكيره، كيف سيظهر لها فهو لا يريد أن يرعبها، ولا تخويفها، وتساءل: إن نزلت سترتعب وتخافني،
إذاً ما الحل، يا الله أشعر بالعجز ماذا سأفعل؟
وهو غارق في تفكيره هذا، اقتطعت عليه فكره بإنشادها وهي تقول:
أتختبئ خلف الأطلال، وإنني على رأسِ الأطلالِ في قلبكَ أُقيمُ.
أتراسلني بصمتك بعدما تركتني أبكي على رحيلك سنين.
أُدهِشَ أكثر، ويا للعجب كأنها تخاطبه في مطلع الكلام، ثم عاد إليه إصراره، فأراد أن يظهر قبل أن يُكشَف أمره بخطأٍ ما.
أما هي لم تحس بشيء، منشغلةً بصنع التاج، وغارقةً في الإنشاد والغناء، تتجمل ببسمتها، وخصلات شعرها الطويل التي تجثو على كتفيها الخاليين من تكدسات الشحوم، تصنع تاجاً وتبدأ بآخر، حتى انتهت من صناعتهم.
وضعت على رأسها إحدى التيجان بهدوء، ووضعت التيجان في السلة، وقامت لتغادر المكان.
وهو يفكر وتتواتر الأسئلة في ذهنه:
أأذهب إليها على حينِ غرَّة؟ أم انتظر؟
لكنها ابتعدت كثيراً، سألحقُ بها.
نزل من على الشجرة وراحَ ورائها ولكنه لم يجدها، بحث كثيراً ولم يجد لها أثر، فحزن حزناً شديداً وبدأ يلوم نفسه: كيف أضعتها ؟،يا لي من غبي!،كيفَ سأجدها الآن؟
لغبائي لم أعرف كيف أتمسكُ بها أو أصل إليها، يا ليتني لحقت بها مباشرةً والكثير من الأسئلة والمعاتبات واللوم يختلج في ذاكرته.
وبهذه الحال قد مضى ساعات على مجيئه وكادت أن تغيب الشمس، فقرر أن يعود بخيبة إلى بيته، فعاد مع غروب الشمس، وهناك في الضاحية أمسى عاشقاً حيران، لا يعي شيئًا سوى أنه أحبَّ فتاةً غامضة، وبعد أن تناول الطعام، واحتسى كوباً من القهوة قرر أن يذهب في اليوم التالي إلى الجبل ليبحث عنها.
وفي اليومِ التالي ما استطاعَ الذهابَ؛ بسبب مناوبته الإضافية في إحدى جهات الضاحية.
فالتزم عمله بصمت، ولكن كان جسده في المناوبة وعقله وقلبه في زاوية الجبل، معلقٌ بين صوت الحسناء وشعراتها المتمايلة وما بين عقله وجسده، وبقي شارداً شديد الصمت حتى انتهى دوامه.
وانتهى الدوام، وهو متعب ومثقّل من خيبة قلبه، ولا شيء حدث سوى أنه لم يجد المحبوبة الغامضة.
بقي أسبوعاً كاملاً مُشرَّداً بذهنه، ومتألّمًاً في قلبه، حائراً في عقله حتى انتهت أيام الدوام، وأتى يوم العطلة، وهنا سنحت له الفرصة أن يبحث مرة جديدة، فاستعدّ لذلك من الصباح الباكر، وذهب إلى حيث كانت في الجبل، وبدأ يبحث عنها وعن الشجرة، لكنه أضاع الشجرة، فلم يعد يميزها عن غيرها من الأشجار، وظل يبحث لكن دون جدوى حتى فقد الأمل، وبعدما فقد أمله سكنت الخيبة في داخله وطأطأ رأسه على جذع شجرة.
وراح يتذكرها، فاتكأ بهدوء وبدأ يُنشُد من تلقاءِ نفسه الكلمات:
" أتختبئ خلفَ الأطلال، وإنني على أطلال قلبك أُقِيمُ؟
أتُراسلني بصمتِك وقد تركتني أَبكي على رحيلك سنين؟ "
ينشدُ كلماتَه ويستشعرُ وجودَها كأولِ مرةٍ رآها فيها.
وبينما كانَ بحاله هذا، أحسَّ بيدٍ تربت على كتفِه فارتعشَ جسدهُ ورفعَ رأسَه مستفسِراً، فكانتْ المفاجأةُ بأنّها الحسناءُ حبيبةُ القلبِ.
الحبيبة ُالتي اخترقت قلبه فانتشلته من عالمِ الجيوش والأمن إلى عالمِ الحبِّ والمشاعر.
نظرتْ إليه بلطفٍ وتأملته بضعُ ثوانٍ وهو محدقٌ في عينيها دون أن ينبسَ بكلمةٍ فصدمتُه بوجودها، ولم يصحُ من الصدمة بعد.
استحت الحسناء لنظراته، ثم أخذت تنطق شعراً أسر قلبه فقالت:
يا وسيمَ الوجه يا واسِع العينينِ.
من أينَ لك بشعْرِي وهذينِ البيتينِ؟
هلا أخبرتني من أنت؟
وما ذلكَ السّرُ الذي استوطن هاتينِ العينينِ؟
لم يعرف ما عليه فعله؟ وما الذي سيقول أو يفعل لهول ما سمع من كلماتها؟ وما رأى من حسنٍ وأدب، لكنه سرعان ما استدرك الموقف فأمسَك بيدها، ووقف على رجليه وقد انتابه إحساس عميق لم يشعر به قط، وأراد أن يُغلفها بقلبه لعمق إحساسه.
أما هي فقد ابتعدت بمقدار خطوتين ثم جلست وطلبت منه الجلوس، وأخذت تسأله عن نفسه بهدوء وبغض طرفها.
فاطمأن لردة فعلها، وجلس قائلاً: هلا تسمحينَ لنا أن نتبادل التحية ثم نتعارف؟
أجابت: نعم، أهلاً بك في أرضي ويا مرحباً فيك بأبيات قصيدتي.
فأُعجب لطلاقتها فقال:
أهلاً بك في قلبي، ويا مرحباً بك في أعتاب شوقي.
ثم أردف يقول:
أُدعى آدم، أبلغُ من العمر ثلاثين عاماً، أعمل ضابطاً في قسم ضواحي بيروت، وأعيش في الضاحية لوحدي، فقد توفيت عائلتي بالقصفِ ولم أتزوج بعد.
كانت قد طأطأت رأسها حياءً منه، وتتعجب بنفسها عن حالها، فكيف سمحت لغريبٍ أن يُجالسها وتتعرف عليه، لو كان غيره لأقامت الدنيا فوق رأسه، ولكن شيئاً ما في داخلها يرحب فيه ويشدها إليه، وحالها كطفلةٍ حيية لا تهوى مجادلة الرجال.
وبعد أن أنهى كلامه تبسمت، وقالت:
أهلاً بك سيدي، تشرفت بك.
أما أنا فاسمي حواء، وعمري عشرون عاماً، درست علم الفلسفة والآن اختص بعلم المنطق في إحدى معاهد بيروت، وأعيش هنا في كوخ بهذه الأرض.
أنا أيضاً فقدتُ عائلتي ولكن بدون الحرب، فقدتهم بعدما انتهت الحرب في حادثةٍ مروعة، ولم أعرف حقيقتها بعد، الآن أعيش هنا وأعمل لوحدي، وقد كنت تركت المدينة منذ أن توفيت عائلتي.
وهذه المرة الأولى التي أجد فيها أحداً في هذا الجبل غيري.
ابتسمَ لها بكلِّ حبٍ، وكأنّ كلماتُها ماءً من الحبِّ تروي فؤادهُ، فينبت منهُ حباً وبسمةً تزينُ ثغرَهُ، وقالَ لها:
أهلاً بكِ، لا بأس هوني عليكِ، لكنْ ما الحادثة؟ ولِمَ تعيشين لوحدكِ في هذا الجبل؟
قاطعتَه بحرج وهي تقولُ: ما الذي جاءَ بكَ إلى هنا؟ وما خطبُك؟
تبسمَ مجدداً ثم قالَ:
صوتُك الجميلُ قتَل كبريائي، وأخمدَ نيرانَ الغضب في داخلي،
انطلاقتُك وبشاشَتك أسهدتنّي، وأنا يا سيدتي منذُ أنْ رأيتُك، أضحيتُ مكبلاً بحبُك.
فارتجفْتُ لسَماعها هذهِ الكلمات، واحمرَّت وجنتاها، وأخفضَت رأسَها خجلاً وحياءً تماماً كالورودِ عندمَا تنحني، فأحبَّ حياءَها، وأرادَ أن يُخرجها من خَجلها، فقالَ:
دعينا نتجولُ بينَ الأشجارِ ونطوفُ بالورود لكنْ دونَ أن نقطفَها، وردد هذه الكلمة ""دون أن نقطف"" على سبيل المزاح.
فأومأتْ رأسَها بالقبولِ، وأشارتْ لهُ بيدها حتى يمشي، ثم مشيا معاً.
وبعدما انطلقا بدأ يتحدثُ إليها، فقال:
حدثيني كيفَ فقدت عائلتكِ، وماهي الحادثة؟
لكنَّها أجهشَت بالبكاءِ؛ لسؤالهِ، فقال:
آدم: ما الأمر؟ عذراً إن أسأت، أخبريني أرجوكِ ماذا هناك؟، يبدو أنّه جرحٌ عميقٌ.
أغمضَتْ عينيها واكفهَرتْ بالدموعِ فأمسكَ بيدها وهو يقول: لا عليكِ هوني على نفسك، ثم اصطحبها إلى شجرةٍ قريبة وأجلسَها تحت ظلِّها، وأخذ يطبطب عليها بكلماته الرقيقة، وتلك الكلمات لم يألفَها أحد منهُ فيما قبل.
ولكنَ حواء اليوم تتكئُ على جذع شجرة لتسمعها منه، وبعد إصرار منه بدأت تتحدث:
بعدما حطّت الحرب من أوزارها سكنتْ عائلتي في الضاحيةِ الغربيةِ وكانت دراستي في معهد من معاهد بيروت؛ لذلك كنتُ أقيمُ مع صديقاتي في مدينةِ بيروت وآتي أهلي في نهاية الأسبوع.
وكنت أعتادُ أمي عندما أعودُ تعد لي الطعام، وتجهز كل شيء؛ لأجل مجيئي وتفتحُ الباب وتنتظرني عنده.
ذاتَ مرة كنتُ على موعدي بالعطلة معهم، أتممَتُ واجباتي وجهزتُ كلُّ شيء؛ لأجلِ عودتي ثم ذهبتُ إليهم.
وعندما وصلت كان ما رأيت.
آدم: ماذا رأيتِ؟
حواء: عائلتي الصغيرة، أمي وأبي وأخي الصغير وأنا فقط.
في ذلك اليوم وجدتُ الباب مغلقاً ولم أرَ أحد.
طرقت الباب فلم يُجبني أحد، ففتحت الباب بمفتاحٍ قد أودعته بالسابق في حقيبتي، وعندما دخلت البيت رأيتهم على المائدة
كانت المائدة مُعَدّة وكل شيء كاملاً ككلّ مرة، لكنَّ أهلي غيرَ كلّ مرة، كانوا أمواتاً ولتوهم ميتين.
آدم: يا إلهي ما هذا وكيفَ حصل ذَلك.!
حواء: أحدٌ ما قد دسّ لهم السُم في الشرابِ.
آدم: يا الله، ما هذا الذي أسمَعه، من المؤكدِ أن هنالِك لغزٌ في القصة.
حواء: نعمْ هنالكَ لغز، والغريبُ في الأمرِ أنّ الطعامَ الموجودُ ساخنٌ ولم يؤكلَ منهُ شيء، وغير منتقص منه أيةَ لُقمة، لكنَّ الشرابَ كان مشروبٌ منه، ونوعَه غريب لم أرَ أهلي يشربونه من قبل، فمن أين الشراب؟ ومن دسَّ السم لا أعرف.
آدم: وماذا حدثَ بعد ذلك؟
حواء: بعدمَا عشتُ صدمتي أخبرتُ عمي وزوجَته وبتلك الحربِ هاجر الجميع من أقاربي في بيروت إلى أوروبا، ولم يبقَ إلا أبي وعمي، فأخبرتُ عمي فأتَى بيتنَا وأتمّ مراسيمَ الدفنِ والعزاء، لكنَّه امتنعَ عن ملاحقةِ الحقيقةِ والبحثِ عنها ،وكلما أُحدثَّه بالأمر يقولُ لي بأَن السلطاتَ الحاليةُ جديدةُ العهدِ ولم تنتهِ من تشكيلِ أجهزتَها الأمنيةِ بعدَ الحرب، فليس لديها إمكانيات التحقيقِ والعمل في هكذا قضايا، إضافة إلى أنه سيلزمنا دفعُ الكثير من الأموال وليس من استطاعتنا هذا الأم، فعلينا اللجوء إلى الله وهو من سيأخذُ حقُنا ويحاكمُ القتلةَ
بعد ذلك باعَ عمي بيتنا وأسكنني معهُ في بيته وكنتُ راضيةً لهذا؛ لأنّه بمثابةِ والدي.
لكنَّ للأسفِ لم يكنْ كالأبِ أبداً.
كانتْ زوجتُه ظالمةً جداً، روعتني وقهرتني كثيراً، حتى تراجعتْ دراستي للوراءِ، وكانت تحشو في رأس عمي أن يزوجني ولا حاجةَ لي بالمعهدِ والدراسَةِ، ومن المعيبِ أن يكونَ لديّ صداقات مع زميلاتي في المعهد، والكثيرُ من هذه الأشياء.
آدم: يا الله، أكملي.
حواء: كنتُ قد أخبرتُ صديقاتي بأحوالي، وكنت أشكو لهنّ وبعد مدةٍ طويلةٍ من المعاناة أخرجوني بحيلةٍ من بيتِ عمي إلى سكنهُن، وأخبرونّي بأنهنَّ قد أعددنَّ هذا الكوخ لي هنا لأعيشَ فيه حيثُ لا يمكن لأحدٍ أن يعرفني أو يجدني فيه، وكانَ الكوخُ كاملَ الإعداد والترتيب ولا ينقصهُ شيءً سوى أنْ أُحضِر خاصياتي وأعيشُ فيه.
بعد ذلكَ درستُ الفكرة بتمعنٍ، وكانَ ضغطُ زوجةَ عمي علي يكبرُ ويزدادُ يوماً بعدَ يوم، فقبلتُ ذلكَ المصير، أن أعيشَ بالكوخِ في الجَبلِ، وأُغيرُ معهدي لأدرسَ في معهد لا يعرفونهُ فعمِلتُ على ذلكَ، نقلتُ أوراقي لمعهدٍ آخرٍ وسربتُ أشيائي بهدوءٍ وبتعاقبٍ بمساعدةِ الفتيات صاحبات الفكرة.
أنهيتُ كلُّ شيءً ولم يتبقَ إلا رحيلي.
فبدأتُ أتحينُ الفرصةَ وهنا كنتُ قد أمْضيتُ عاماً كامِلاً في بيتِ عمي أُعاني فيه مرارة ِالظُلمِ والعذابِ، ناهيكَ عن جرحِ موتِ أهلي.
بدأتُ تقصُ الأحداثَ وتسردُ كلماتَها على مسمَعِه وهو ينصتُ إليّها بدونِ أن يُخفِي تأثيرهُ الشديد، وبعدما سكتت صمت هنيةً ثم سأَلها:
كيف تعيشينَ هُنا؟
حواء: أنا هنا منذُ ستة أشهر، بعدما أتيتُ الكوخَ زرعتُ بعضَ النباتاتِ، وبدأتُ بصناعة التيجان والزخارفِ اليدوية لأبيعها في سوقِ المدينة وبكلّ أسبوع أسافرُ مرةً إلى المدينة أتفقدُ أمورَ الدراسةَ وأُحضِر الكتبَ والحاجاتَ الدراسية وغيرُها من المستلزماتِ، وأبيعُ ما لديّ من صناعاتٍ ومن ثمَ أعودُ إلى هنا، وهنا أعملُ في النهارِ وأدرس في الليلِ، وهكذا أُمضي أوقاتي.
آدم: يا الله، يا لكِ من صابرةٍ، يا لكِ من عظيمة، أليسَ هذا صعبٌ عليكِ ؟،ألَم تَشعُرِي بالوحدة؟
حواء: اعتدتُ الوحدةَ، لكنَّ الصعوبة لا لم أجد صعوبةً ابدًا، كانت معيشتي عند عمي تجربة قاسية سهلّت لي التحمل، وساعدتني على تقبل العيشِ هنا، بلْ هنا الحياةُ رغيدةٌ لا ظلمٌ ولا ظلام.
فتنهدَ آدمُ ثمَ قالَ:
حسناً، سنجِدُ حلاً.
حواء: لماذا؟
آدم: نعم، سنعرفُ من قتلَ أهلك، وستتركينَ هذا الكوخ.
حواء: آدم شارفتْ الشمسُ على الغروبِ دونَ أن نَشعر، عليَّ أن أعودَ ويتوجبُ عليك َالذهاب.
آدم: صحيحٌ، كما تأمرينَ ياَ عزيزتي.
حواء: أعتذرُ إليكَ يا آدم، ألهيتُكَ عن نزهتكَ وحدثتُك عن مشاكلي ربّما لأننّي تأثرتُ ربما.
دررت كلماتَها بحياءٍ وتوترٍ وارتباك، أمّا هو فكانّ يبتسمُ ودقاتَ قلبهِ تتهافتُ عليه، فانتظرها حتى انتهتْ من الكلام وقال: حواء.
الضابطُ آدم وقعَ في حبُّكِ منذُ أن رآكِ في الأسبوعِ الماضي.
سألتهُ بدهشة: ماذا ومتى رأيتني؟ فأخبرها عن ذلكَ باختصار، وأردفَ يقول:
حسناً، سأذهبُ الآن وأعودُ إليكِ بعد أسبوع وسأجلبُ معي بشرى سارة، فأعدي لي حينها الشاي؛ لأشربَه بدلاً من تلك المرة، قال هذه الكلمةُ وضحك الاثنين.
فابتهجتْ حواء وأوعزتْ بالقبولِ فسعدَ آدم لقبولِها، ونظرَ إلى عينيها، ثم قالَ: حواء.
حواء: نعم
آدم: أتقبلينني زوجاً محباً لكِ، أتقبلينني زوجًا يحبُّكِ وتحبينهُ؟
احمرّت وجنتاها وذُهلتْ، فلم تصدقَ الذي تسمَعهُ، ماذا ستفعلُ وارتبكتْ كثيراً.
آدم: لا تجيبيني بشيءٍ، موعدنا الأسبوع القادم، لكِ مني البشرى، وعليكِ إعداد الشاي وردِّ الجواب.
اتفقنا؟
حواء: نعم، على بركة الله.
آدم: إذاً هيا بنا، دعيني أوصلكِ الكوخَ ثم أذهب.
حواء: شكراً لكَ.
فأوصلَها الكوخَ وعادَ إلى بيتِه في ضاحية الشمال.
بعدَ أسبوعٍ وعلى الموعدِ:
أعدِّت حواءُ الشايّ وقلبَها يهتفُ أن يأتي آدم، ذلكَ الرجلُ الغريبُ الذي احتلّ قلبها من لقاءٍ واحد.
لقد مضى أسبوعٌ كاملٌ وهي لا تعرفُ كيفَ تعيش يومها، فتارةً تذكرهُ فتبتسم، وتارةً تذكر وعده وطلب الزواج منها فتحتارَ لحالتها، وأحياناً تضجر من شدّة تفكيرها فيه.
أما آدم فقد كانَ يعملُ بجدٍ ونشاطٍ أكثرَ من أيامه السابقةِ حتى زملائه لاحظوا عليهِ بهجتهِ ونشاطِه، ولاحظَ أنّه قد خصصَ ساعةً من الوقتِ يومياً ليعملَ بها خارجٍ عن نطاقِ العمل في الجيش فيا تُرَى ما الأمر؟
الجميع يتساءل عن حال آدم.
وهكذا انقضى الأسبوع إلى حينِ الموعد.
فبعدما أعدَّت حواء الشاي، وجهزتْ سلةَ الطعام؛ لأجل تناولُ الفطور فمن المحتمل أن يأتي آدم جائعاً، وبينما تفكر بذلك وتجهزُ الأشياء؛ لأجلِ مجيئه طُرِق الباب طرقةً قوية وسمعته يقول "أنا آدم"
توترتْ قليلاً ورجفَ قلبُها، لكنّها سرعان ما استعادتْ حيويتها وهدوءَها، ثم راحتْ تفتحُ له الباب.
حواء: أهلاً بكَ.
آدم: صباح الخير
حواء: صباح النور، هيا تفضل، الشاي جاهز.
آدم: لا لا أريدُ أن أشربَ شيئًا، ولن أدخلَ قبل أن أعرف جوابك.
خجلت حواء كثيراً وتبسمتْ بصمتٍ، ثم نظرتْ إليه، وقالت وما هي بشراكَ لي؟
آدم: لنْ أخبركِ بالبشرى، ولن أدخلَ ولن أشربَ الشاي دون موافقتكِ على الزواج بي، أنا أيضًا مشردٌ مثلك، ولكن قلبي شغوفٌ وعاشق ولهان بكِ وحيرانٌ بدونك.
خجلتْ منهُ وحنتْ رأسَها استحياءً منه، ثم قالت:
لك ما طلبتْ
آدم: ماذا! أعيدها على مسمَعي، أتقبلينَ الزواجُ بي؟
تبسمت ثم قالت: نعم، لا تُحرجني أكثر، هيا أخبرني بالبشرى، ودعنا نشربُ الشاي معاً.
آدم: لا لا، لن نشربَ الشاي هنا.
حواء: لم أفهم، أينَ إذا؟
آدم: سنشربها في حديقةِ المحكمة بعد أن نعقدُ عقدَ زواجنا، استعدي لنذهبَ هيا.
حواء: مهلاً عليكَ، ولم العجلة؟ وأين بشراك؟
آدم: ليستْ بعجلةٍ.
ثم اخرج أوراقًا من جيبه، وقال:
انظري هذه البيانات لعائلتُكِ، وهي كاملةٌ، وأخرجتُ ما يلزمنا لرفع قضيةِ اغتيالهم ولا يمكننا التعجل بالقضيةِ دون أن نكونَ سويةً؛ لذلكَ علينا أن نتزوجَ قبل رفعِ الدعوة.
حواء: يا إلهي ما أسرعكَ! وشكراً لاهتمامك.
آدم: أي شكرٍ يا حبيبتي؟! أحبكِ كثيراً، وكيف للمحب أن يخطئ في حقِ حبيبه؟
خجلتْ حواء كثيرًا وتهرّبتْ من كلامِه، وقالت: سأرتبُ احتياجاتي، واحضّر حقيبتي، ونذهبُ، انتظرني هناك.
آدم: هيا فأنا انتظرك.
وبعد مضي نصف ساعةٍ من ذلك، أنهتْ حواء كلَّ شيءٍ واستعدتْ للذهاب ثم أخبرتُه باستعدادها فأخذ ينقلُ الأمتعة إليه حتى انتهى منها، ثم أمسكَ بيدها وأغلقَ بابُ الكوخَ وقال وداعاً للكوخ وأهلاً بكِ في بيتكِ الجديدِ، ثم ذهبا إلى المحكمةِ، وأتمّا عقد زواجهما بسرورٍ، ومرّ بها آدم على إحدى المطاعم فتناولا الطعام وبدأ يخططان لرفعِ الدعوةِ إلى المحكمة ويتباحثانِ بحياتهُما الجديدةِ.
وهناكَ في الضاحيةِ الشمالية انتهتْ المتاعبُ واندثرَ الحزنُ في أرضِ الجبلِ وبدأَت الحياةُ الهادئةَ بكلِّ حبٍ وسرور."

1 تعليقات
سلمت يداك اليد والقلوب البيضاء تنتج كلمات بيضاء
ردحذف