أسيرُ في طَريقي ساعياً في الدُنيا , و كُل أيّامي واحدة , حياةٌ لا جديد فيها .
أُجاهِد في الدُنيا مِن أجل البقاء , وحيداً اسيرُ في دَرب التّعب والشّقاء
لا رَفيق يؤنِسنُي او أخاً أشدّ بِه ازري عِند حاجتي
خَلقتَني يا الله وأنا عبدُك , مَنحتَني القوّة والحياة اضعفَتني
إذ كُلّما عَصيتُ امركَ الجأ إليكَ مُتضرّعاً ; لِعفِوكَ ارتَجي
نفختَ بي مِن روحِك والرّوح لَك تهتَدي
ياااارب اشكو إليكَ وِحدتي ..
لا استطيبُ العيش أُحادِث نَفسي والجّمادات مِن حَولي
أما مِن أحدٍ يُشاركني هذهِ الحياة يا الله ؟
فَقد مرّت بي أيامٌ موحشة انتَ اعلمُ بِها اكثر منّي
رغِبتُ بها مَن يُلامس روحي , يُربت على كتفي في حُزني
أرى بهِ ذاتي ويأخُذ بيَدي إلى حيثُ السّعادة والهناء
أتغيّر معهُ إلى حالٍ لا يُشبِهُ حالي المُعتاد هذا
ثلاثون عاماً قضيتهُ في مكانٍ لا وجود لإنسٍ معي سِوى ذاتي ..
روحاً واحدة تنبضُ فيه
هذا أنا .
على جزيرة سيلان حدثت مُعجزتي ..
سمَعت صوتاً مِن بَعيد يُدندن لحناً عذباً اخترق أُذني
أَيوجدُ أحدٌ هُنا !
إذاً أنا لستُ وَحدي , فهُناك مَن يُشاركني المَكان !
أُسرِعُ بِخُطواتي , ألحقُ صاحِب الصّوت
وَصلتُ نِهاية الجزيرة .. اقتربُ اكثر والصّوت يَعلو
ها هوَ .. او الأصحّ هيَ
أتسمّر مَكاني , أهيَ حَقيقة مَن أراها أمامي الأن ؟ بشرٌ مِثلي ام أنّها حوريّة ؟
مَبعوثةٌ مِن إله المحبّة فَقد كان يَسمعُني و استجاب لدُعائي , وكأنّه الأن يَقول لِي :
إليكَ الدُنيا يا آدم وكُلّ الأرض , عِش بِها كما يَحلو لكَ مَع مَن يؤنِسُك .
فَتاةٌ بَيضاءُ الوَجه , طَويلة الشَّعر بُنيّة الخُصلة , جَميلة الصّوت , تعيشُ في رغد .
جَمالُها يَروقُ لِلعَينين والرِّقة تُسحِر , فَسُبحان مَن خَلق حُسنها
هيَ الأرض .. كُل الأرض في بَهائِها .
حديثٌ أوّلي بيننا ولتبدأ الحِكاية ..
على سطح جزيرة سيلان التي تخلو مِن البَشر , ليس فيها سِوانا , أراها مِن بَعيد تَمشي الهوين قُرب البَحر
اقترِب مِنها , أسألها :
- مَن انت ِ ؟
فتُجيبُني بإستِحياء : امرأة .
- وما اسمكِ ؟
حوّاء .
- كيف أتيتي إلى هُنا ؟
تُجيبني وهي تُداعب خصلات شَعرِها : لا بُد أنّك عِشت طوال عُمرك على ضفّةٍ واحدة مِن هذهِ الجزيرة فظننتَ بأنّ لا سِواك عليها .
- لَم ألحَظ يوماً لِوجود صوتٍ بَشري أخر مَعي , كنتُ اسمعُ صدى صَوتي فقط .
لأنّي أُطرب ذاتي دَوماً , لكن اليوم أحببتُ ان أُطلق العَنان لَه .
انظرُ في وَجهها البَهي , اسرحُ في عَينيها وأُدرك معنى الحياة مِن خِلالهما
" تَخطف القَلب بِحَديثها , فَلها اسلوبٌ يَغوي العَقل , كمِغناطيسَ تَجذب كامِل الحواسّ بِكلامها وأنا الغارِق في بَحر حَديثها كُلّي , و بحّة صَوتها عالمٌ أخذٌ كُل ما بِي نَحوها , ففي اوتارهِ روحي عالِقة تَبحث عَن مَرسى لِتنجو مِن المَوت فيه
مجنونٌ كيف جذبتني كطفلٍ صَغيرٍ اغراهُ مَوج صَوتها ! "
تقطعُ شرود ذهني بِقَولها :
يا انتَ .. ألستَ مَعي !
- عُذراً منكِ لَم اسمَع , ماذا كُنتي تَقولين ؟
أقول بأنّ عليكَ العَودة مِن حيثُ أتيت , فَقد اقترب غروب الشّمس .
- هل لَنا بِلقاءٍ أخر غداً ؟
لا أعِدك لكن رُبّما .
- حسناً , وبالمناسبة آدم هوَ اسمي .
غادرتُ و روحي لا تودّ الرّحيل فَقد قَضيت وقتاً طويلاً في عَتمة وِحدتي حتّى أتت هيَ بِحُسنها و رَوعة ما فيها , فَكيف لي أن اعود الأن لِما أنا عليه بَعد ان قابلتها ؟
بِداخلي شعورٌ أعجزُ عَن وَصفِه , اتأملّ النجوم و قمراً يحتلّ سماءَها يُشبهُ وَجهها بِضيائِه , اللّيل طويلٌ جدّاً والأرق يَجتاحُني أخِذة جُل عقلي , غَفوتُ على صورتِها التي حُفِرَت في ذاكرَتي , فأشرقَت شمسُ الصّباح على شوقٍ لألقاها .
أخذتُ لها مَعي زهرةَ الأُوركيد وذهبتُ إلى حيث مكانها , فأجِدُها تَستندُ على شجرةٍ تقطِفُ مِن اوراقِها , وحين اقترَبتُ مِن خَلفِها قالت بنبرةٍ واثِقة :
أتيتَ بالزّهرة الأكثر جمالاَ وجاذبيةً وغرابة .
- كيف عَرفتي بِقدومي ؟
لأنها الزهرة الوحيدة في سيلان التي تفوحُ مِنها رائحةٌ قويّة مُميّزة .
- أراها تُشبهكِ .
وأيّ لونٍ مِنها قَد جَلبت ؟
بلونٍ يُشبِه وَجنتاكِ الأن .
وَقفتُ أمامها ووَضعتُ زهرةَ الأُوركيد على شَعرِها المُنساب ونظرتُ لِعينيها الخَجِلة , فإن حَيائها قاتِلي وكأنّها تَدعو الرُّوح لِلشّغب ولِتُقام ثَورةٌ بِنبض قَلبي لَم اشعُر بِها قَبلاً .
- كيف ترَينَني بعينيكِ ؟ كيف أبدو في نظرِك ؟
اممم , رجُلاً وسيمَ الوَجه بِبياض بشرتِه و شَعره الأسود , جميل العَينين بوسعها , عريض المَنكبين , مهيب الطلّة وقويّ الشّكيمة , لكن به حزنٌ طاغٍ على ملامِحه وكأن شيئاً ما ينقُصه.
- إنّي لا يملكُ مِن الدُنيا إلّا سبيلي فيها وسَعي نحو ذاتي , أعيشُ في كوخٍ خَشبي صَغير على أحد تِلال هذه الجزيرة , وحيد ٌ ضّائع غير مُستقر من داخلي , حتى حدثت المُعجزة .
أيّ معجزة ؟
اصمُت لكِن الجّواب بِداخلي " انتِ مُعجزتي التي احدثها خالِقي في قَلبي و هذا المَكان " .
تغُضّ الطّرف لِتسألني :
أتعلم ما قصّة الجزيرة التي نحن عليها ؟
- لا اعلم سِوى أنّ اسمها سيلان , أتعلمين انتِ ؟
البِدايات مُثيرة لِلجّدل دائماً , في كُلّ شَيء , و أوّلها الخَلق والوجود .
حيث بدأت الحياة فيها بنزول سيدنا ادم وزوجته عليها
جزيرة سيلان التي تكاد بطبيعتها ومناخها البديع وعزلتها وهدوئها وجَمالها وروعة تناسق ألوانها التي تبعث الراحة برؤية مناظرها الخلابة ان تكون رَوضةٌ مِن رياض الجّنة بسطها الله على جزء مِن الأرض .
لَحظاتٌ بَيننا كهذِه انسى بِها نَفسي وأودُّ لَو ابقى مَعها عُمراً طويلاً لا لِساعاتٍ تَنتهي بِعَودتي لِمنزلٍ باردٍ بألوانٍ باهِتة كوِحدَتي .
تَمضي الأيّامُ مُسرِعة وقَد تَعلّقت بِها روحي , حتّى اصبَحتُ أتلهّف كُل يومٍ لِلقاءها واحببتُ الحياة فيها ومَعها , نتحدّثُ كثيراً دون مَلل , تأخُذني بِحَديثها وأنا مُستمتِعٌ بِذكاءها المُبهر .
سألَتني مرّة :
أتؤمِن بِالوجوديّة ؟
- سؤالٌ عَميقٌ جِداً , لكن سأُجيبكِ بِقَليل الكلام
نعم أؤمن بها , والدّليل أنا وانتِ هُنا.
فسّر لي اكثر ؟
- إنَّ استمراريّة وجودنا على الأرض هوَ بِما نَفعلهُ , وذاتُنا بِفكرِنا وعَواطِفنا وقُدراتنا ومَعرفتنا لِما نُريد والأهم مِن ذلك إيمانُنا بِخالِقنا .
و إن اجتاح الإنسان شعور اليأسٌ مِن كُل ما هوَعليه , فَماذا عساهُ يَفعل؟
- الحياةُ يا حوّاء تَحتاجُ مَن يَسعى بِها و أن يُغامِر بِجنونِه , ولأجل أن يَحيى بِها عليه أن يَكون شَغوفاً لها وان يُصارِعها بقوّته ليلَقى سَعادته .
وما السّعادة بِرَأيك ؟
- إلحاحُنا في الدّنيا بأنّنا نَستحِق العَيش فِيها دون عناءٍ و شَقاء .
مِن أين تأتِ بهذِه الفَصاحةِ كُلّها ؟
- التَّفكُر بِما حَولنا يُثير أسئِلة كثيرة بالعَقل , وقَد كان أمامنا عمرٌ طويلٌ لِنُدرِك ماهيّة الوجود والحَياة لِنَصل لِهذا الوَعي دون شَك وبذلك نَلقى جواباً لأسئِلتنا .
تَستطرِدُ في الحَديث هيَ وأنا اتأمّل تَعابير وَجهها وتَلويحة يَديها ومُداعبتها لِشَعرِها بَين الحين والأخر لأُقاطِعها بِقَولي :
أَتعلَمين بأنّ كُل كلِمة تَخرجُ مِن فاهكِ مُثيرةٌ لِلشّغف .. لِلشّغب .. وإثارة الفِتنة لِتُقام على إثرها حُروباً و مَجازِرَ بداخلي ! وكأنّكِ تَنتَقينها وتَتقصّدين بإختِياركِ لها لِتكون كحدّ سَيفٍ أو كسهمٍ يَخترق مُنتصف قلَبي فأغدو قَتيلَها وقَتيلكِ
فَهل تُدركين ما مَدى وَقعها علَى نَفسي وما تَفعلُ بِي !
أَتجهَلين نتائِجها ام أنّكِ تتجاهَلين لِتُربكِ نَبضي ؟
فإنِي رَجلٌ بالهوَى اصبَح يُثيرُه أقلّ أَشيائك .. ويَتشتّت عُقله ويَضيعُ فِي متاهة صَوتِك .. أُنوثَتك .. تَفاصيلكِ وكُلّ ما فيكِ .
تَضعُ كفّها على فَمي لِكي لا أُكمِل وتَدفعني بِقولها : أما حان مَوعِد عَودتك .
فقد كان الجّو غائِماً والسّماء مَليئة بِالغيوم فبدأت تُمطِر بِغزارة , فتحَت حوّاء كِلتا يَديها ورفَعت رأسها حتى ابتلّ وَجهها وكامِل جِسمها وأنا أقِفُ أمامها أُناظرِها , فهذا جُنون ما تَحت المَطر بِرفقَة امرأة لا أستَطيع تَجاوزها , تَخترِق كُلّ ما بِي وتَسكُن أعماق القَلب والرّوح , تَجذبُني نَحوَها وتَتحكّم بِخلايا عَقلي , فجَمال وَجهِها بِحدّ ذاته لا يُمكنَني أن أتخطّاه , مَفتونٌ بِها ومُغرمٌ حدّ اللّاوَصف .
عاشِقة هيَ لِلمَطر تُلاعِبُ قَطراته وتَتراقص تَحتَهُ بِغنج أنوثَتها , وهيَ لا تَعلم أنّها تتلاعبُ بِنبض قَلبي و حتّى حواسّي أطفالٌ أمامها يَرغَبون قُربها ، دلالها واهتِمامها , فيا لَيتَني قَطرة ماءٍ تُلامِسُ وَجهها وكفّيها وتَحظى بالتغَلغُل بَين خُصلات شَعرِها. وفي قَلبي نارٌ تَشتعِل فإنّي أغار عليها مِن المَطر كُلّما رأيتُ جُنونها فيه .
لَيتَني قَطرة ماء ..
لَيتَني كُلّ المَطر .
أفَقتُ اليوم والسّعادة تغمُر روحي , قرّرتُ أن أُصارحها عمّا بِخافقي لَها وأن ابوحَ برَغبَتي لِقُربها اكثر , واُخبِرها بِمكانٍ داخِل صَدري لا يَحِقّ لِأحدٍ سِواها, فَقد راقَ قَلبي لها واحبَبتُ استيطانَها فيه .
كُنت فِي طَريقي إليها أُحادِثُ نَفسي عمّا سأقولهُ لها و كيفَ سأُخبِرها بأنَّ قَلبي قَد مالَ لها وفيهِ مَشاعِرٌ اتّجاهها تكادُ توقِفُ نَبضهُ مِن كثرتها .
حتّى وَصلتُ ولَم اجِدها وبحثتُ عَنها وكأنّ روحها قَد تَلاشَت , صَرختُ بِكُل قوَتي علّها تَسمعُني :
حوّاءُ اين انتِ ؟
مُتعبٌ وقد أرهقَتني وِحدَتي في هذا المَكان .
حوّاء عودي إليّ ولا تَبتَعِدي , فأينَ لِي بِمَلجأٍ إن لَم يَكُن فِيكِ ؟
و مَن لِي سِواكِ إن أضعتُكِ مِن يَدي ؟
اجثو على رُكبتيّ و بصوتٍ خائبٍ أُكمِل :
رَجلٌ أنا لا أُخفي حاجَتي إليكِ
فأنتِ الصّواب والحَقيقة الوَحيدة التي أُؤمِنُ بِها هُنا .
دَعيني أرى جَمال الحياة بِمرآة عَينيكِ وأعيدي رَسمي بِألوان حُبَّكِ
و اسدِلي السّتار عَن وَجهي لِأُبصِرَ النّور مِنكِ , فقَلبي باتَ حُوَّة آدمي .
حوّاءُ أرجوكِ ارجِعي
" رُوَند عَمريطي "

1 تعليقات
[…] روند عمريطي | قَلبهُ باتَ حُوَّة آدمي […]
ردحذف