محمد دعبول | لا تبرح حتى تبلغ



صوتُها دواءٌ لِكلِّ داء، ما بينَ الحبِ والمواثيق والذكريات التي تَتَمحْورُ في ذاكرة كلِّ إنسانٍ منا، منها الحزينةُ حدّ البكاءِ ، ومنها المضحكة حد الإغشاء .
اكتبُ قصةَ اليومِ عن ذاك الحُلُم الذي ترنَّق في حياةِ آدم الرجل العظيم ذو الثلاثين خريفاً، الّذي كان من الأشخاصِ الذين تركوا أثراً في حياتي؛ من خلالِ قراراته القويّة تلكَ القرارات التي تحتاجُ لعزيمةٍ فذّة وإصرارٍ مُنَكِّل؛ حيثُ كانت قراراتُه فيّاضةً نتيجةَ الحكمة العظيمة التي كان يتحلى بها ذو الثلاثين خريفاً مزهرا، آدمُ شابٌ متنكرٌ بعباءةِ الهدوء، متفردُ الصفاتِ نادرُ الاطباعِ، صاحب العُقَدِ التي لُقِّبَ بها نتيجةً لتلك المحنِ والظروفِ التي واجَهتْهُ في مَعركةِ الحياة، وحربِ الوجودِ ؛ حيث كانتِ العقدُ ترافقُهُ مُنذ صِغره أو بالأحرى أنّها كانت مُنذُ ولادتِهِ في هذه الحياة، حيث ولَدَتهُ أمُّه في ليلةٍ صمّاء مخيفَة، وتُرِكَ بجانبِ ميتمٍ، وكادتِ الجرذانُ والكلابُ أن تلتَهِمَ جسَدَهُ النّحيلَ في أوَّلِ يومٍ من ولادتِهِ.
كانَت عُقدتُهُ الأولى تلتَصقُ في يومِهِ الأوَّل من الحياة، وُلِدَ بجانبِ الميتَم وليجدَ ذاتَه فيما بعد طفلُ الميتَم أو كما أَطلَق عليهِ رفاقُه 《الطبيبُ اليتيم 》ولتكونَ حوّاءُ ظلَّه الوَدود، تلكَ البيضاءُ الحَسناءُ الجَميلةُ، جميلةُ الخَلْق ذات ضفيرَتين بُنيَّتَينِ وخصلات ٍ حريرية تدغدغ وجنَتيْن ورديّتين، آدم ُوحوّاء، لَهما حكايةٌ ممزوجةٌ بالتفاصيلِ، بدأَتْ تلكَ الحكايةُ منَ اللّحظةِ الأولى الّتي التقَيا فيها في المَيْتم، عندما كانا صَغيرين وكانَتْ حوّاءُ ظلَّ آدم في كلّ تفاصيلِه، حيثُ كان آدم يقصُّ عليها أحلامَه وحوّاء تَخيطُها له بخيطٍ منَ الأمَل .
كان لآدمَ مُنذُ صِغَره أحلامٌ مِثلَ جُلِّ النَّاس على هذه الأرض، كان أهمَّها أنْ يُصبِحَ طبيباً .
- آدم :أتعلمين يا حوّاء... إنَّني رَغمَ كلِّ العُقَدِ في حَياتي إلَّا أنّي ما أزالُ أَطمَحُ أنْ أكونَ طبيباً ، وأكونَ ذا أثرٍ وأَسُدّ كلَّ الثُّقوبِ في حياتي وكلَّ الحُقَبِ المُبْكية .
- حوّاء : ستكون يوماً ما تريدُ يا آدمَ ... إنّني أثِقُ بقدراتِك، إنَّ شخصاً مثلُكَ واجهَ العالَم المُخيف مُنذُ الصِّغر بمفرَدِهِ سيكونُ تحقيقَ أحلامِهِ أمراً سهلاً .
- آدم :أسعدني كلامُكِ يا حوّاء، يا ظلِّي الجميل يُسعِدُني أن ترافقيني هذا المجال وهذه الأحلام .
حوّاء: فِكرةٌ جميلةٌ يا سَيِّدَ الكلمات وأنا معكَ إن شاء الله.
حواءُ وآدمُ في هذهِ الحُقبةِ أبناءَ خمسَ عشرةَ سنة، تعاهدا على تحقيقِ الحُلم القابِع في مخيلةِ آدمَ، لكنَّ عقدةً ثانية تَحُولُ بينهم وبين تحقيق الحُلم، بدأَت عندما احترقَ الميتَم بشكلٍ غيرِ متوقّع وبطريقةٍ رهيبةٍ مخيفةٍ، وقد خلّف هذا الحريقُ للميتمِ أضراراً كبيرة، حيث أصْبحت أجزاءَ كثيرة منه رمادً وركاماً، ومات أثناء ذاك عشرةُ أطفال واحترَق وجهُ آدمَ بالكاملِ، كانت حواءُ الناجيةَ الوحيدةَ من تلك الفاجعةِ المبكيةِ التي لم يبقَ موقعٌ من مواقعِ التواصلِ الاجتماعيّ الا وكتبَ عنها وكانت تضجُّ الصحفُ بهذهِ الحادثةِ التي سمِّيتْ بمحرقةِ الميتمِ .
آدمُ مشوّهٌ، َضريحُ الفِراشِ، في غرفةِ العملياتِ لمدةِ يومٍ كاملٍ وحواءُ لا تفارقُ مدخلَ غرفة العمليات، رُغم صِغر سنّها إلا أنّها قد عاهَدت آدمَ على السّيرِ معه في كل شيءٍ.
انتهتِ العملية بنجاحٍ وأحيلَ آدمُ إلى غرفةٍ أُخرى .
- حوّاء :يا ويحَ نفسي كيفَ أُقابل آدم وهو على هذه الحال، وهل أستطيع بكل ما أُوتيتُ من قوةٍ أن أقابله؟.
مرَّت الدقائقُ والساعات، بعدها حسَمت حوّاء الأمرَ وقررتِ الدّخول .
- حواء :آدم ..أنا هنا بجانبك ومعك، لا تحزن يا جليس فؤادي ورفيق طريقي، سوف يمضي كل شيء والخير فيما اختاره الله .
- آدم :حوّاء لا تتركيني، لِنهايتي .
حواء :عاهدتك يا آدم، والعهودُ ديون .
وهنا بدأتْ حوّاء بقراءةِ القرآن بصوتٍ يخطفُ القلوب لِتُخفِّفَ من الألم عن آدم، حقبةٌ زمنيةٌ في الماضي مليئةٌ بالعقدِ والمحنِ التي صادفت آدمَ وحواءَ، لننقلك عزيزي القارئ إلى حقبةٍ زمنيّةٍ مختلفة، حواء وآدم مابعد خمسة عشر عاماً، الكلُّ متشوقٌ ومنتظِر ليعرف ما حدث مع آدم وحواء، آدم ما بعد خمسة عشر عاماً قد اختفت كل علامات ذاك الحريق من تفاصيل وجهه الجميل، حوّاء ترقَّت وترنَّقت لتكون زوجتَه، والمحاربَ الودودَ في هذه الحياة، لتكون ذخيرته الأخيرة وسيّدة قلب ذاك الثلاثيني، وسيم الوجه واسع العينينِ جميلها وكان آدمُ مهيبَ الطلّة وهذه الصفة المميزة به .
حوار في صباحٍ مبكّرٍ بعدَ صلاةِ الفجرِ بينهما :
- آدم : حوّاء .. في داخِلي فوضى من الأفكار، يجب أن أخبرك بها .
- حواء : تكلم يا آدم كلّي آذانٌ صاغيةٌ لكلامِكَ .
- آدم : قد عادَ الحُلم يطرُق مخيّلتي يا حوّاء وقد قضيتُ ليلةَ الأمسِ وأنا أفكّر بهِ
- حواء :أن تكون طبيب؟ .
- آدم :نعم .
- حواء :أفرحت قلبي يا آدم، مازال لديك بقعةٌ من الأملِ وتستطيع تحقيق ما تريد .
- آدم :سوف أكمل التّعلُّم حتى أصل إلى حُلمي .
- حواء :وأنا معك يا جليس فؤادي، وهنا بدأت حواء بتعليم آدم بعض العلوم التي يحتاجها، والتي تعلمتها حواء في مجالسِ بناتِ الميتم، مرّت الأيّام والشّهور والسنين، إلى أن وصَل آدمُ إلى اللحظةِ حيثُ كان قد بقي على صدورِ نتائج الامتحانِ التي تؤهّله للدخول في الجامعة يومٌ واحدٌ .
آدم خائفٌ وحواء بجانبه تقرأُ عليه القرآن كي تُهدِّئ روعه، في اليوم الثاني حوّاء توقِظ آدم لتُخْبره أنّه قد نجحَ بمعدّل يؤهلّه لدخولِ الجامعةِ وتحقيقِ حُلمِه بعد ثلاثينَ سنة من عُمُرِه .
آدم صامت لكنّ كلّ ما بداخله يرقص فرحاً، سجد آدم سجدةَ شكر لله ، وبكى ودعا الله وحمده على هذه الفرحة، وسجدت حواء معه.
- حواء : كُنتُ قد عَلِمْت بقدرتك يا قرّة العين ويا طبيب قلبي .
- آدم :الفضل لله، ولوجودك جانبي يا سيّدة البيت، فرحة تحقيق الحُلم يا حوّاء قد مسحت كلّ الخرابِ في داخلي، قد مَسحَت صَفعَتي الأولى في هذه الحياة وحريقَ الميتم، عُدتُ رجلاً بقلبِ طفلٍ .
في النّهاية يقدِّمُ آدمُ نصيحةً منمّقةً بالتجارب لكلّ قارئٍ مرَّ منْ هنا لعلّها تحدثُ أثراً ‏" إذا فشلت في تحقيق أحلامك فغيِّر أساليبك وليس مبادئك .. فالأشجار تغير أوراقها وليس جذورها " لا تبرح حتى تبلغ.


إرسال تعليق

10 تعليقات

  1. قصة رائعة ومعبرة 👍😊

    ردحذف
  2. كتير حلوة ..ما شاء الله

    ردحذف
  3. حلوة ومعبرة 🤗❤️

    ردحذف
  4. جميل ورائع👏🌸🌷

    ردحذف
  5. كتير حلوه ما شاءالله عنجد روعة

    ردحذف
  6. بوركت يا سيّد الكلمات والألفاظ روووعاتك

    ردحذف
  7. روعاتك يا سيّد الكلمات والألفاظ
    بوركت 🌹💙

    ردحذف
  8. ابداع🌸 تميز 🌸روعة
    كتابات تشد انتباه القارئ
    بالتوفيق ان شاء الله

    ردحذف